من أدب الرحلات

لوفران.. مدينةٌ تعبر بك الزمن كما يعبر البحرُ صخورَه

لوفران جوهرة الادرياتيكي

 

لوفران / كرواتيا

هناك مدنٌ تصلها، فتضيفها إلى دفاتر أسفارك،
وهناك مدنٌ تصلها، فتضيفكَ هي إلى ذاكرتها،
ولوفران تنتمي بلا تردّد إلى الفئة الثانية.

لم تكن بالنسبة لي مجرد نقطة على ريفييرا أوباتيا، بل ممرّاً هادئاً إلى زمن آخر.. زمن يمكن سماعه في صرير الأبواب الخشبية، ورؤيته في لمعان الحصى تحت أقدام العابرين، وشمّه في رائحة البحر حين يلامس جدران الحجر العتيق.

مدينةٌ تُقرأ كما تُقرأ المخطوطات

تبدو لوفران من الوهلة الأولى كمدينةٍ خجولة، تختبئ خلف مينائها المتواضع. لكنّها سرعان ما تكشف عن جوهرتها القديمة، مدينةٌ محصّنة بأسوار وأبراج، تقف على عتبة البحر كما لو أنها على موعدٍ دائم مع التاريخ.

هنا، في أزقتها التي لا يزيد عرض بعضها على امتداد الذراع، شعرتُ بأنني أسير في كتاب مفتوح، لا في شارع. كل حجَر فيها يحتفظ بشيءٍ من أصوات الذين مرّوا، بحارة، تجار، فرسان، وعابرون كانوا يبحثون لحياتهم خارج صخب المدن عن معنى كما أبحث انا الآن.

كنيسة القديس جورج… قلبٌ نابض منذ قرون

عند الساحة المركزية تقف كنيسة القديس جورج شامخة وواجهتها المتواضعة تخفي طبقات من الزمن من الطراز الروماني الأول، مروراً بلمسات الباروك. لكنّ أهم ما فيها ليس معمارها، بل صمتها: صمتٌ يُشبه الصلوات التي تُقال بلا كلمات، وتلك القدرة المدهشة التي تمتلكها المدن القديمة على جعل الزائر يهدأ، حتى لو كان قادماً من ألف اضطراب.

لوفران التي لا تتغيّر

لأكثر من قرن، ظلّت لوفران ملاذاً للباحثين عن مناخ معتدل ومشاهد تُنعش الروح. فالبحر هنا ليس مجرد خلفية سياحية، بل رفيق رحلة يتغير لونه مع تغير الضوء، ويمنح المكان تلك النبرة الفيروزية التي يصعب إزالتها من الذاكرة.

مذاق المكان… مائدة تروي حكاياتها

في قلب المدينة يقع مطعم غانيوم. أن تجلس هناك في مساء صيفي يعني أن تكون جزءاً من لوحة
ضوء أصفر دافئ، موسيقى خافتة، رائحة خبز طازج، ونبيذ محلي يعيد تشكيل الزمن في كأس صغيرة
تتغيّر قائمة الطعام بتغير الفصول، لكن سمك الأدرياتيك كيفما قُدّم يبقى هو القصة التي ينبغي تذوقها قبل مغادرة المدينة.

أسوارٌ بنتها الصراعات… وتركتها الذاكرة

مرّت لوفران عبر صراعات لا تُحصى. من حروب شارلمان إلى المعارك البحرية بين الأوسكوك والبندقية. ولهذا أحاطها أهلها بأسوار عالية، لم يبقَ منها اليوم سوى برج المدينة، يقف مثل شاهدٍ صامت على عالمٍ كان أكثر اضطراباً من عالمنا.

بوابة ستوبيكا… المدخل الذي حفظ أسماء الغرباء

كانت لوفران تُدخل زوّارها من أربع بوابات، ولم يبقَ منها سوى بوابة ستوبيكاـ البوابة التي تنحدر منها درجات إلى البحر. هناك وقفتُ طويلاً. شعرت أنّ آلاف الأقدام التي مرّت من قبلي تركت شيئاً ما في الحجارة ـ بقايا قلق، بقايا أمل، بقايا حكايات غير مكتملة.

رحلة في ممرات كُتبت بالحجر

تتعرج الطرق داخل المدينة كأنها نُسجت من خيطٍ واحد. باحات صغيرة مخفية بين الجدران، مداخل مقوسة، نوافذ ضيقة… كل شيء هنا يدعوك للتباطؤ، للإنصات.
تسعة عشر جداراً من الباحات الحجرية لا تزال قائمة، محافظةً على سرّ الحياة التي كانت تدور خلفها. ربما كانت ضحكات نساء، أو صراخ أطفال، أو حديثاً مسائياً عن البحر.

لوفران… المدينة التي لا تغادرك

عند لحظة الوداع، وقفت على الممر المطل على الأدرياتيك. كان الضوء يتغير ببطء، والجزر البعيدة تذوب في الأفق. عندها أدركت شيئاً لم أفهمه حين وصلت:
المدن الصغيرة ليست مجرد محطات، بل نقاط مضيئة على خريطة الروح

لوفران ليست مكاناً تراه ثم تمضي
إنها مكانٌ يمضي معك
مكانٌ يكتبك كما تكتبه
وجوهرة أدرياتيك تُذكّرك بأن أعمق الرحلات ليست تلك التي تُقاس بالكيلومترات، بل بتلك التي تغيّر طريقة نظرك إلى العالم… وإلى نفسك

لوفران .. مدينة تعلّم المسافر أن بعض الأمكنة لا تُغلق صفحاتها، بل تظلّ مفتوحة لمن يعود إليها بالحنين قبل الخطوات!!