أزهار كردستان ( صفحات من دفتر ذكريات بيشمركة ) / حمودي عبد محسن
لقد كتبت مذكرات طويلة أثناء حركة البيشمركة ضد الدكتاتورية التي تواصلت قرابة 12 عاما ، تخللتها أحداث ، و حكايات ، و أساطير ، و تداعيات ، و ، قصص قصيرة ، و رؤية واقعية عن بساطة العيش للفلاح الكردي في قريته الصغيرة أو الكبيرة ، و حلمه الإنساني بالتخلص من بطش الدكتاتورية ، و توقه للعيش في طمأنينة و سلام ، لذلك كان يجد الفلاح أن البيشمركة هو المكافح الحقيقي لتحقيق حلمه القادم ، فقدم كل ما عنده من إمكانية لمساعدة البيشمركة سواء كان ذلك مأكلا أو لباسا أو مؤى ليلي أو نهاري ، و في نفس الوقت كان يشعر البيشمركة بالراحة في القرية ، و غالبا ما كان الفلاح يساهم في الحراسة ليقضي البيشمركة قسطا من النوم ، و ليواصل مسيرته النضالية عند الفجر ، و قد وجدت في الفلاح تلك الشيمة ، و الحرص ، و استعداده للتضحية بحياة عائلته من أجل البيشمركة ، و قد التقيت بالعديد من الثوار من مختلف الحركات التحررية في العالم أثناء دراستي سواء كانوا من أمريكا اللاتينية ، أو أفريقيا أو آسيا ، أو من خلال اطلاعي على أدبيات هذه الحركات ، لم أجد مثيلا لهذا الاستعداد بالتعاون و المساعدة من قبل الفلاح للبيشمركة في كردستان في أية بقعة من بقاع الحركات التحررية و الثورية ، و هذا ما لفت انتباهي منذ أن دخلت كردستان في بدايات عام 1980، و هنا لابد أن أشير إلى أن فشل حركة جيفارا في بوليفيا ، أنه لم يستطع أن يدرك أن الفلاح البوليفي لم يكن لديه الاستعداد للتعاون مح حركته ، و لذلك فشلت حركته ، و أسر جيفارا جريحا في أحد المعارك ، ثم أعدم ، فقد كانت حركته انعزالية عن الجماهير معتمدا على مبدأ البؤرة الثورية ، و كان عمر حركته قصيرا ، بينما حركة البيشمركة كانت جماهيرية تخدمها طبيعة الأرض من جبال ، و وديان ، و سهول ، و ذات عمر طويل ، و تجربة طويلة ، و أشخاصها يمتلكون صبرا طويلا ، و يدركون التقلبات السياسية ، و يحسنون المناورة السياسية و العسكرية ، بالرغم من أنها مرت بانتكاسات عديدة ، و وقعت أيضا في أخطاء كثيرة ، و صراعات مسلحة دموية راح ضحيتها مئات من البيشمركة البواسل ، فكانت تكبو ثم تنهض ، و هذا سر ديموتها ، و انتصارها لأنها حركة جماهيرية تعبر عن مصالح الفلاحين ، هذا أيضا ما جسدته في المذكرات ، إلا أن تلك المذكرات ضاعت مني في زخم الحركة ، و تنقلاتي المتواصلة ، و قد حاولت أن أسجل بعض القصص القصيرة عن الطفل ، و الشيخ الكردي الذي يتمسك بحلمه بالخلاص من الدكتاتورية قبل مظاهرة أربيل التي اشتركت فيها مع صديقي الشهيد سعدون ، و كنا نحن الاثنين فقط من العرب اللذين ساهما في مظاهرة 6 آذار 1990، و التي مهدت لانتفاضة 11-12 آذار في أربيل1990 فيما بعد ، و قد سجلت بعض القصص في بيت العزيز سرود ، و كنت أحاور والده المرحوم الخبير بالزهور عن زهور رأيتها ، فكان يقول لي : ( لا أستطيع أن أقول شيئا إذا لم أرها ) ، و ها أنا أروي قصة تلك الزهور : كنت ، وبحكم اختصاصي في الجيولوجيا ، أجمع الأحجار المعدنية ، و ألقي نظراتي عليها ، محددا مكانها ، متفحصا إياها ، مسجلا ملاحظاتي في دفتر صغير ، ثم أضعها في ( عليجتي ) ، و أنا أجوب أرض كردستان نتيجة ما تتطلبه حركة المفارز المقاتلة ، و عندما تصبح ( عليجتي ) ثقيلة ، أفرغها من الأحجار المعدنية ، لأنها تعيق خفة الحركة خاصة إذا كنا في مسيرة طويلة ، تتطلب صعود الجبال ، و في أثناء هوايتي تلك كنت أراقب الورود من سفوح الجبال في أشهر الربيع ، إذ هناك حادثة غريبة حدثت لمجموعتنا الجيولوجية في القرم ، فقد كنا ندرس ، و نبحث عن معدن الحديد ، و نحدد انتشاره على الخارطة الجيولوجية ، و حالما انتهينا من تحديد موقع الحديد ، صعدنا إلى الجبل ، و إذا بنا نجد أن خارطة انتشار الحديد مرسومة على الأرض على شكل ورود صفراء ، مما أثار تعجبنا و تساؤلنا ، حينها تأكد لنا أن هذه الورود ذات ارتباط بتواجد الحديد ، و ظلت هذه الحادثة تطاردني إلى كردستان ، فكنت كلما أنظر من قمة جبل إلى سفحه أتفحص الأرض ، و أبحث عن توزع ورود أو نباتات برية ، هكذا صرت أرغب دائما الجلوس قرب أي قطع جبلي ، يظللني من الشمس ، و يمتع نظري بالتطلع إلى الوادي أو السفح ، و انتعش من نسيم الهواء ، تضرب وجهي رذاذ المياه الهابطة من أعلى الجبل ، ينتابني إحساس بالهدوء ، و الطمأنينة في ظل الطبيعة السخية ، المدهشة ، الفاتنة ، ثم أنقاد إلى حلمي ، و حلم الفلاح في الخلاص من الدكتاتورية ، و أنا أغتنم الفرح على الأرض التي تشبعت بالخضرة ، و الأنهار ، و الينابيع ، و الزهور ، و الكفاح الإنساني من أجل أن ينفض عنها الأحجار ، و الصخور ، و الأدغال ، و تتحول إلى حقول ، و مزارع ، و بساتين ، إذ اندمجت مع الأرض ، و شممت تربتها ، و عانقت أوراق أشجارها ، و لمست وريقات النرجس ، و ارتويت من أعذب المياه الصافية ، و حرثتها بحربتي لأدفن جسدا مخضبا بالدم ، بالعرق ، بالنبل ، و أودعه بالحزن ، و الدموع ، هذه هي الأرض غمرة كفاح ، و مسيرة طويلة على الأقدام ، يتغلغل شذاها في أعماق الروح ، و تتصاعد أنغامها من تغريد طائر الكاو ، من خرير الجداول ، من همس أوراق الشجر ، من تصافح سنابل القمح في نسيم الفجر ، دائما تتحدث عن جوهرها ، و تتكلم عن التاريخ بواقعيته ، بأساطيره ، و تغمر الإنسان بوحدة عميقة لا مثيل لها ، تتموج روحه مع بهائها ، و تتجدد مع سحرها ، في إيقاع الزمن ، في عالم مرئي يحيطه ، إنها رعشة من التاريخ ، يحيا فيها الإنسان خلوده الدنيوي ، هكذا كنت أتأمل اللحظة الخالدة ، لتتجدد روحي بالحب ، و معنى الوجود ، و جدوى الكفاح ، و أتخلص من تعب المسيرة الطويلة على الأقدام حاملا على كتفي بندقيتي ، و على ظهري ( عليجتي ) ، و يتغير عندي مشهد العالم ، لأكتشف زهورا في القطع الجبلي ، حدقت إلى بهائها ، و سطوة ألوانها السحرية ، و مأثرتها الجمالية المتوازية ، المتناسقة ، المنسجمة مع إيقاع المياه ، كانت منبعثة على حافتي ممر أسود دقيق لمياه هابطة من أعلى القطع لنبع صغير ، تحيطها حشائش خضراء ، و ترتعش رعشة خفيفة حين يداعبها رذاذ الماء ، و كلما رحت أقترب منها ، و أتفحصها بعيني المبهورتين ، كان يتملكني إحساس إنها تنظر إلي ، و تدعوني أن أتحدث عن سر ، أكتمه في داخلي ، و أنا أحاول أن أسترجع ولادة ألوانها بعد أن اتحدت نظراتي معها ، كانت بيضاء ناصعة ، مزينة ببقع حمراء ، ثم أصبحت صفراء فاتحة ، مزينة ببقع سوداء ، مع هبوب نسيم دافئ ، فتساقط قطرا من أوراقها أشبه بدموع حزينة . يا للعجب ! هذا ما قلته مع نفسي احتراما إلى صمتها ، و أنا مشوشا ، عاجزا أن أكلمها ، بغتة تضرجت بحمرة كأنها فتاة خجلة عذراء بشعر مسرح أسود ، تطوق عنقها قلادة بيضاء ، تندفع الدموع من عينيها ، فبقيت ساعات أتابع تبدل حركة ألوانها ، و رؤية شحوبها تارة ، و وميضها تارة أخرى ، و هي تستأذني أن اكتشف سرها ، و كلما تغير لونها ، تغير جمالها بصمت إلى شكل ، و جوهر آخر ، فصارت ألوانها أشبه بإخطبوط يلفني بأذرعه ، و يهيمني علي ، إنها تتحد معي اتحادا لا إنفصاما منه ، و انفتح أمامي عالم جديد ، صار يترك أثره على كفاحي في المسيرة الطويلة ، فعندما أعيش معاناتي ، و أنا أنزل جثمان شهيد إلى لحده ، ، و أطعمه بالتراب ، و الحجار ، فيصير قبرا خالدا ، أهرع إلى أي نبع قربي أو حقل ورود ، فأقتطف زهورا ، و ورودا ، و أزين القبر بها ، و أنا أمسح دموع الألم و الحزن ، هذا ما كنت أستطيع أن أفعله ، أن أمسح الدموع من عيني ، و خدي ، هذا هو الفرق بيني و بين تلك الزهور النائمة في النسيم ، في الظلال ، و المتفتحة ، و المتغيرة الألوان بتأثير شدة أو ضعف الضوء عليها ، لم أعرف اسمها ، و لم أهتدي إلى شئ عنها سوى أنني أعرف موقعها في أحد القطوع الجبلية في منطقة زيبار قرب سهل نهلة
حمودي عبد محسن
باحث و كاتب