صمد الذي عرفته / مناف الاعسم

رحل عن عالمنا صديقي ورفيقي صمد كريم عباس الحلفي ، بعد ان داهمته أمراض اقلها قاتل، ترجع معرفتي بصمد الى يوم ١١ سبتمبر ١٩٨٠، اذ وصلنا الى القامشلي ظهرا أو قبيل الظهر متوجهين للالتحاق بصفوف الانصار بكردستان العراق تلبية لنداء الكفاح ضد نظام صدام حسين ، استقبلنا في القامشلي احد كوادر الحزب الشيوعي السوري وأرشدنا للعبور من النقطة الحدودية السورية - التركية من القامشلي الى النصيبين وأوضح لنا ذلك الرفيق السوري الطويل القامة ،باننا سنذهب مشيًا على الأقدام للوصول الى التمثال وأومأ بيده صوب الجانب التركي ومدخل مدينة النصيبين و قال هناك دوار فيه تمثال لمؤسس تركيا الحديثة كمال اتاتورك والى يسار التمثال هناك مكتب لختم جوازات السفر والدخول بشكل رسمي الى تركيا وعلينا المبيت بفندق يقع في بداية السوق لهذه المدينة الصغيرة المزدحمة، وفعلا وصلنا وكنا مجموعة من خمسة رفاق لم يكن صمد من بيننا في بداية الأمر ورحب بنا صاحب الفندق وهو يتكلم العربية السليمة بلهجة أهل الاسكندرونة القريبة الى اللهجة السورية او اللبنانية، أخذنا كل شخص سرير بغرف مشتركة بين اثنين وبعضها اكثر وبعد ساعات قليلة صار مجموعنا يربو على العشرين رفيق، وجاء صمد وبدون سابق معرفة لي به ولكنه كان يعرف بعض الموجدين معنا وقال الأسواق مفتوحة وكذلك المطاعم فلنذهب للعشاء لان بكرا ستاتي علينا سيارات ونقصد مقرات رفاقنا على الحدود العراقية التركية

أخذ صمد زمام المبادرة بايجاد مطعم مناسب لنا ، هذا لا ، وذاك وسخ والخ الى ان وجد لنا مطعم مكتظ وتعلو سحب الدخان من المنقلة الموضوعة امام المطعم ورائحة الكباب والمشويات تغطي الشارع مصحوبا بضجيج رواد المطعم من عوائل وأطفال

- يمعود صمد وين جايبنة؟

-أكلو على مسؤليتي، هذا يبين نظيف، جلسنا على الكراسي الموضوعة على الرصيف وكان الجو خريفي معتدل ونسمات منعشة تأتي هادئة

و بعد الانتهاء من العشاء وكان فعلًا الطعام لذيذ، كان صمد يرتدي الجينيز والقميص ويضع مشط صغير في الجيب الخلفي للبنطلون ، فاخذت المشط منه دون استئذان وكنت أتعمد استل المشط خلسة فقبض على يدي وقال

- ها شفتني ما اشوف عبالك زوج، عندي عيون بكل أنحاء جسمي

ضحكنا و استدرك وقال

- اكو سينما هنا

أجابناه فورا

-يالا نروح

كانت سينما صيفية مكشوفة وبدا العرض بأفلام رخيصة وتجارية وبصوت سيء جدا وبدأ الجو يتغير والنسمات الهادئة امست عدوانية وباردة فاستأذنت وخرجت وخطر في بالي كيف سأذهب الى كردستان حيث البرد والمطر و أنا لم امتلك معطف ، فعرجت على احدى المحلات لبيع الملابس وعثرت على قمصلة خاكي ذات بطانة ممتازة ودفعت ثمنها ووضعتها على كتفي ورجعت للسينما لأجد الجماعة قد غيروا مقاعدهم من الخلف الى المقاعد الأمامية وصاح علي صمد

- ابو حاتم احنا هنا

والفيلم تحول من فلم عصابات إلى شي آخر نسمع تأوهات الجمهور الجالس خلفنا، فتركنا السينما عائدون الى الفندق .

في صباح اليوم الثاني ارتدينا ثيابنا لنجد مطعم للفطور وإذا بالجندرمة ( الجيش التركي ) منتشرة على طول الشارع وكان احد أفرادها ماسك باب الفندق يمنع من يهم بالخروج، تحدث معه صمد وهو لا يجيد التركية والجندي لا يجيد العربية وعاد صمد إلينا ليخبرنا ان انقلاب عسكري قد حدث ! ، وأطيح بحكومة أجاويد وجاء حاكم عسكري وهو كنعان ايفرن ودخلت تركيا يوم ١٢/٩/١٩٨٠ بحكم عسكري ولسنوات تلت وفرض حظر التجول الى آمد غير مسمى.

والغريب ان صمد عقد صداقة غريبة مع الجندي المكلف بمنعنا من الخروج من الفندق وصار الجندي يلبي طلبات صمد بالذهاب للتسوق وياتي لنا بالخبز والشاي والقيمر والعسل وتتكرر الحالة في أوقات الظهر والمساء

وانقطعت التعليمات بخصوص التوجه الىى المقرات حتى جائنا ابو علي رحمه الله وهو رفيق من أهل الجزيرة وأخبرنا بالتهيأ للذهاب في اليوم التالي اذ سيرفع الحظر صباحا ويعود مساءًا وسنستغل فترة الصباح للسفر عن طريق سيارات معدة لإيصالنا الى اقرب نقطة الى مقراتنا في كوماتة عبر ناحية شرناخ.

قال لي صمدحينها هذه اول مرة يكون محظوظ بحياته لانه لو بقى في القامشلي ولم يتمكن من العبور بسبب الانقلاب لكان عليه ان يقضي اياما وممكن شهور في القامشلي ينتظر رحمة الله.

انطلقت بنا السيارات في صباح اليوم التالي وحان وقت الحظر الذي كان معلن بعد الظهر ولم نصل الى ما كنا نتوقع الوصول اليه فاوقفتنا سيطرة للجندرمة.

كان توجيه الجندرمة ان نعود الى النصيبين ، ولكن استدارت السيارات وتركت الشارع الدولي متجهة صوب احدى عيون الماء وأخبرونا بالمشي للوصول الى تلك الشجرة المجاورة لعين الماء.

بعدها وصلنا الى الأراضي العراقية بمسيرة حوالي عشرة أيام مشيًا على الأقدام وأثناء المسير التحقت بنا قوافل أخرى ورفاق اخرين ، وعند دخولنا الى الأراضي العراقية أذيع البيان الأول للحرب العراقية الإيرانية يوم ٢٢ أيلول ١٩٨٠ .

وعند سماعنا بخبر نشوب الحرب ونحن للتو خرجنا من تركيا وانقلابها العسكري، قال صمد اكيد اكو واحد بينا حاروگة.

افترقنا بعد الوصول الى كوماتة وهو اول مقر لرفاقنا على الحدود التركية ونسب ابا صارم (صمد)إلى مقر گوستا ليكون الطبيب المعالج للكثير من الإصابات وهو المعاون الطبي وعمل في مستشفيات السماوة بعد تخرجه من المعهد الطبي الفني في البصرة مما اعطته الخبرة والجرأة وأثناء عمله الأنصاري تلقى رسائل شكر من الأحزاب الحليفة التي كانت تستنجد بنا لنقدم المساعدات الطبية اللازمة على الرغم من شحة الأدوية ، ولكن وجود رجل مثل ابو صارم خلق ليساعد غيره من البشر غير المعادلة وسهل الأمور ، وبقيت اسمع عن مواقف ابو صارم وانا بعيد عنه اذ كنت اعمل في المفارز، وسمعت انه تعرض لحادث سير اثناء تنفيذه لإحدى المهمات التي كانت تتطلب سفره عبر المدن التركية، سافر على اثر ذلك الحادث إلى اليمن- عدن.

لقائي الآخر بصمد ( ابو صارم) كان ١٩٩٠ وكنت في بلغاريا بعد خروجنا الاضطراري من كردستان على اثر حملات الإبادة السيئة الصيت ( الأنفال )، وتوجهت الى السفارة البريطانية لغرض الحصول على تأشيرة دخول الى لندن وألحت السفارة بطلب حجز للسكن مسبق كواحدة من شروط منح التأشيرة وحصلت على تلفون صمد المقيم آنذاك بلندن والذي تغير اسمه من ابو صارم الى ابو لؤي على اثر ولادة ابنه البكر لؤي في اليمن منتصف الثمانينات ، اتصلت به وبعد السلام والكلام أخبرته بوجودي في صوفيا فقال انه يعلم ، فطلبت منه ان يحصل لي حجز حتى لو كلف الامر شيء من المال ، فقال لي فورا متى تريد هذا الحجز، فأخبرته مازحًا غدا، وفاجئني ولماذا بكرا ، أعطني اسمك كما هو في الجواز وتاريخ ميلادك ورقم فاكس كي ابعثه لك الان لأني جالس في مكتب الفندق الذي اعمل به منذ فترة وسألني ان حصلت على الفيزا سيكون بانتظاري في المطار ،وبعد الوصول الى لندن عام ١٩٩٠ والى يوم وفاته المؤلم يوم ١٢ نيسان ٢٠٢٠ عرفناه اخا ينفعل ويتألم كثيرا لأجل غيره و تجده الى جانب أصدقائه مضحيا بوقته وماله ، هذا هو صمد الذي فقدناه ولم نستطيع ان نواري الثرا على قبره المجيد

تبا لزمان يجعلنا ان لا نفي ولانستطيع تشييعك بما يليق ببطل مثلك أيها الانسان الممتلئ بحب الناس

ابو لؤي الانسان العاطفي الذي يخطأ فقط بسبب عاطفته

نعم قرير العين ولك من الابناء ما يحيون ذكراك

ولك من المحبين ما يشفعوا لك حبك للحياة

ولك من الذكرى ما نقضي بها أيامنا