الذكرى الثلاثون لمعركة (كلي الرمان) / مناف الأعسم (ابو حاتم)

كلي الرمان  او وادي الرمان الذي من الممكن ان يلهب خيال الكثير من الشعراء لجماله وروعة تضاريسه واعتدال الجو به صيفا وكثرة الضباب به شتاءا, كان مسرحا لمعركة هي اول تجربة لي باستخدام السلاح وكانت المعركة ايضا ضربة تأديبية لقوات صدام المسلحة في منطقة سهل الموصل.

 يجانب هذا الوادي الجميل قرية بريفكا من الشرق ويحاذيه من جهة الغرب قمة متوسطة الارتفاع ولكنها مهمة جدا من الناحية العسكرية لسيطرتها على كلي الرمان وعلى الطريق الذي يشق هذا الوادي قادما من قرية باعذرة التابعة لقضاء الشيخان (عين سفني)  من الجنوب و متوجها الى ناحية اتروش نحو الشمال.

كانت ايام الشتاء الاولى من عام 1980  حيث لازالت جروح والام الهجمة الشرسة الذي تعرض لها الحزب الشيوعي لازالت طرية وفي اذهان معظم الانصار والرفاق وهم يجوبون مناطق غريبة عليهم ويعيشون حياة تكون فيها ابسط مسرات الحياة من الامنيات الصعبة التحقيق, سيما و ان معظمهم قضى شهوراً عديدة بدول اوربية او عربية تتوفر بها كل مستلزمات الحياة المدنية قبل المجيء الى كردستان لتلبية نداء  كان يدور بخلدنا نحو اسقاط ذلك الجلاد وانقاذ الوطن من عواقب سياساته.

في ذلك الوقت لدينا الكثير من الرفاق من اهل المنطقة وهم رائعين بتذليل الكثير من الصعوبات ومنهم من له تجربة بحياة الانصار سابقا , ولكن وجود القائد الشعبي الاسطورة توما توماس على رأس هذه القوة التي يربوعددها على السبعين اعطى لهذه المجموعة دفق خاص ووحد قيادتها وحدد لها معالم تلك المعركة مع الاخذ بنظر الاعتبار كل التفصيلات ومن ابرزها حداثة التجربة, وعدم معرفة المنطقة التي نتجول بها  , ونقص العتاد, وشحة التموين, وعدم المعرفة بامكانات القوة المهاجمة على وجه التحديد. كل هذه الامور كانت بحساب ابو جوزيف دون ادنى شك لان اسباب التوقف عن المعركة وحتى اسباب اختيار الزمان والمكان للمعركة  وطريقة ادارة تلك المعركة واستدراج العدو ووضعه في كماشة محكمة, فكان قائدا عسكريا غير قابل للتقليد بالاضافة الى كونه اب للجميع يحرص علينا كما كان يحرص على جوزيف الذي كان معنا ايضا .

وقد احتضنته القوش اخيرا ابناً باراً لها وقائداً شعبياً لا ينسى.

اعود لتفاصيل تلك المعركة ,كان لنشاط الانصار الشيوعيين وبيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني وقع كبير في تلك الفترة من صيف 1980بالاضافة الى عملية اقتحام معسكر (بولمباز) وطرد الجيش منه دون رجعة الى معارك الانفال سيئة الصيت حيث استخدم فيها النظام الصدامي كل انواع الاسلحة المحرمة دوليا من اسلحة كيمياوية وعنقودية ومقابر جماعية للاسرى من شيوخ ونساء واطفال..وتوسعت تلك النشاطات في بداية الشتاء من السنة ذاتها وتمت عملية انتشال الكثير من ابناء المنطقة من حالة اليأس والخوف من مقارعة ذلك النظام الذي بسط نفوذة واشاع الهلع في نفوس كل العراقيين ولا يستثنى منهم سكان قرى كردستان النائية وكانت الصور المرعبة حول سياسة النظام تظهر بتعليقات ابسط الفلاحين حول سياسة الارض المحروقة والتهجير القسري الى الصحراء والقتل الكيفي لكل من يشك به كمعارض للنظام.

المهمة كانت عسيرة انذاك والامكانيات محدودة في ظل ظرف كان النظام يبدو قوة ازلية لا يمكن مقاومتها؛ ولا يفوتني ان اذكر ان انشغال معظم قوات النظام بالحرب مع ايران الذي اشعلها صدام بايلول1980 قد ساهم بضعف سيطرة النظام على الكثير من مناطق كردستان اثر الضربات الموجعة التي تعرضت لها ثكنات ومعسكرات الجيش في كل مناطق كردستان والتي كانت القوة التأديبية للنظام مما جعل الكثير من المعسكرات والقلاع تصبح بايدي البيشمركة .

كان لشروع المفرزة بقيادة ابو جوزيف في الاول من تشرين الثاني 1980 ونزولها العمق حيث مناطق سهل الموصل مرورا بكل القصبات والقرى في العمادية (برواري بالا) وسرسنك واتروش وعبور جبل كارة نحو زاويتة ودهوك ومن بعدها قرى سهل نهلة ومناطق الزيباريين ووصولا الى ناحية باكرمان التابعة لقضاء عقرة؛ واخيرا كانت الضربة الموجعة لكبرياء النظام هو الوصول الى القوش والقرى المحيطة بها والمكوث في مقر الحزب في بيرموس ذلك المقر الذي اسسه الانصار في عام 1963 .

في ذات الوقت كان النظام وعن طريق الكثير من الامكانات المتوفرة له من عيون وجواسيس يتابع تلك الحركة ويخطط بشكل محموم للحد منها ولتوجيه ضربة تكاد تكون موجعة للانصار فكثف جهوده لغزو المنطقة واستعادة الهيبة واسترجاع ما فقد من نفوذ, كان الامر في حساب ابو جوزيف الذي كان يصرح ويفرط بالنصيحة والتوجيه نحو الحذر, على خلاف الكثير من الانصار الذين اعياهم المسير الطويل وانا منهم.

كانت المعلومات تتوارد وبشكل صريح عن التحشيد العسكري وعن نية النظام الصدامي بشن تلك الحملة ,

ففي الثامن من شهر كانون الاول ذهبت مفرزة من التنظيم المدني لاداء بعض المهام الى بلدة باعذرة  ولم تستطيع الوصول لكثرة التحشيد العسكري من الجيش  في تلك البلدة وكان من الواضح  ان النظام يعد لشن حملة يستعيد بها ما فقده من هيبة ونفوذ.

فرجعت تلك المفرزة المكونة على ما اذكر من الرفيق ابو داود (خديدة) والرفيق ناظم ختاري والتقت معنا مجددا لتخبر ابو جوزيف بأمر العسكر وما شاهدوه ، مما حدا بابي جوزيف ان يجعل النهوض في صباح يوم التاسع من كانون الاول مبكراً جداً وذهبنا باتجاه كلي الرمان وبالذات تلك القمة المسيطرة على الوادي من جهة الغرب والمحصنة طبيعيا. في البداية كان مجرد كمين مبكر ذهبنا انا والرفيق المسوؤل السياسي للفصيل انذاك سامي دريجة والرفاق منذر ابو الجبن وابو ادراك والشهيد ابو رستم والشهيد حكمت واعتذر ان لم اتذكر الاسماء الاخرى وبعد بزوغ الشمس بدقائق بانت لنا اليات الجيش متجهة من باعذرة جنوبا نحو الشمال حيث اتروش والمناطق المتاخمة لمنطقة عشائر المزوريين , كانت القوة الماهجمة مكونة من ستة سيارات (ايفا) تتوسطهم سيارة القيادة (جيب قيادة) كما يسميها الجيش.

وقد ذكرالمرحوم ابو جوزيف بمذكراته ان هذا الاحتمال كان الاورد وهو مجيء الجيش من تلك المسالك ولكن اختلف معه كالعادة رفيقه وصديقه ابو باز  (له طول العمر).

اسرعت بالنزول من تلك القمة على اثر التبليغ من امر الفصيل الرفيق خليل سنجاري للقاء بابي جوزيف لاخبره بالامر وكان المرحوم ابو جوزيف مع افراد حمايته الشهداء ابو ايمان وابو هديل  وابو داود يزجون الوقت بالمسير القصير ذهابا وايابا على سفح ذلك المرتفع المسيطر على القوة المهاجمة مع بقية المفرزة وكان كمن يعلم بالامر فامر الجميع بالصعود الى القمة والاستعداد لتوجيه الضربة بعد سماع صوت اول اطلاقات لتكون اشارة البدء بالرمي.

عندها بادر الرفيق سامي دريجة بتحوير اغنية الحرب انذاك (الف مبروك انتصرنا) الى الف مبروك انكبسنا وانطلقت ضحكاتنا فرحا بالنصر وبالكبسة التي وجهت للجيش الذي لم يجرأ ومن معه من استخبارات على الوصول لتلك المناطق لغاية عمليات الانفال.

كان لمكان الدكتور عادل (استشهد في بشتاشان الثانية) وهو الدكتور الوحيد في المفرزة فقد تم اختيار المكان له بين صخرتين كبيرتين كي يكون هذا المكان امنا للمعالجة اذا اقتضت الضرورة ولكننا لم نحتاجه بشكل فعلي مما حدا ببعض الرفاق لاطلاق بعض التعليقات الساخرة حول خطورة المكان وكيف ان د.عادل كان معرضاً لاحتمال الاصابة, فكان طيب الذكر يضحك ويشاركهم التعليقات بان القذيفة حتى تأتي اليه عليها السقوط بزاوية 90 وهذا الاحتمال الوحيد لاصابته وعندها يضيف بان (خلي نموت عاد) فيعلو الضحك...

بعد المعركة بايام قليلة واثناء ما كنا باحدى الوديان للراحة والاختفاء التقيت بابي جوزيف  , فسألته كيف لنا ان نخوض معركة اخرى نوجه بها ضربة موجعة للنظام ؟ فأجابني على الفور ان علينا ان نتجول ونستفز العدو وبحذر شديد كي نستدرجه الى الموقع والزمان الذي نختاره نحن وليس يفرض علينا , ساعتها ايقنت ان هذا الرجل هو المهندس لتلك المعركة التي خضناها ودون خسائر باستثناء جرح الرفيق نبيل (استشهد بعد سنوات في معركة دوغات ) .

المجد للشهداء ممن شارك بتلك المعركة والتقدير لكل من ساهم وهيأ.