من تأريخ حركة الانصار في اربيل من ابطال السهول الدافئة الشهيد سركوت خضر كاكيل / محمد علي رحيمة – ابو احرار

كان اول لقائي به في مقرات كافية. رجل شاب بعمر الورد، قصير القامة، ومليء بالحيوية والنشاط، وسيم تختزل نظراته وبريق عينيه الكثير من الذكاء. علمت انه ابن البطل الاسطورة وقائدنا في معركة كاروخ الشهيد " خضر كاكيل". كانت يده اليمنى جريحة فضمادها يغطي ساعده بالكامل.
- " كيف حالك الان حبيبي سركوت ؟".
كان هذا اول حديثي معه. لم اسأله اين ومتى وكيف جرحت، فانا وجميع انصارنا هناك، علمنا بالمعركة البطولية التي خاضتها مفرزة الشهيد " ملازم ره نجبر" في قرية " جه مه سور" في سهول حرير، ضد مرتزقة المجرم عزيز مولود عندما اقاموا كمينهم الغدار لرفاقنا في 5 ايار 1986 . والتي قتل فيها رئيس الجحش وثلاثة من اتباعه، واستشهد الابطال ملازم "ره نجبر" و وجرح سركوت.
- " لا تهتم ،هذه اوسمة المناضلين". ثم قلت له " تعرف سركوت كان الوالد يقص علينا قصة ولده الصغير والعنيد، الذي يريد حمل السلاح بجانب والده، ودائم الصدام مع اقرانه من خصوم الحزب، هذا الولد العنيد هو انت..؟" ثم أضفت له :ان ذلك في نهايات 1981 يوم كنا في جبل كاروخ مجبرين على الدفاع عن انفسنا ضد اعتداءات اوك.
بدأ سركوت مستمع بحديثي معه. كان يبتسم ونوع من الفرح بادئ على محياه. وهو ينوي مشاركتنا في عمل قد شرعنا به انا ورياض وبعض من الرفاق لتنظيف ما لدينا من افرشة واغطية مستفيدين من حرارة الشمس اللاهبة. قلت له دع عنك هذا. التزم الراحة فقط. ثم سألني ان كنت قد عملت مع والده في المفارز وفي منطقة بالك. وكأنه يريد ان يسمع اكثر ما يمكن من الحكايات عن البطل والده. قلت له لم اعمل معه غير حقبة التصدي لجماعة اوك في شتاء1981 وربيع 1982 .كنا سوية بمعية هاشم وكانبي كجكه وآخرين، على سفح جبل كاروخ، يومها ذبح خضر كاكيل شاة قد ابتعناه من احد الرعاة، وعمل قصابا لها، ليكون فطورنا الصباحي باجة الشاة التي حضرها الشهيد بلا اية اواني طهي، بعد قلب كرشة الشاة وجعلها على شكل كيس، ووضع ما امكن وضعه من عظام وجمجمة الحيوان داخل الكيس ودفنها تحت موقد النار وجمره اللاهب حتى الصباح. نعم كانت طيبة جدا استمتع الجميع بها". كان سركوت يصغي اليٌ باهتمام.
بعد أن توطدت صداقتنا السريعة سألته " سركوت هل انت عاشق..؟" ضحك وبانت اسنانه واجابني " بابا عاشق جه ي.." -اي عشق- وكان يضحك. كنت اعرف ان انصارنا الشباب يطيب لهم الحديث بتلك الموضوعات ويستمتعوا بها. لكن سركوت خجولا حتى في المزاح، عكس الحديث عن الثوريات والمراجل والبطولات حيث يركز بنظراته الثاقبة على المتحدث. وكم من مرة طلب مني ان اعيد عليه قصة معركة حسن بك. في الوقت نفسه قص لي تصديهم لكمين الجحش واستشهاد رفاقه وجرحه، والمعركة البطولية التي خاضوها في " جه مه سور". وقبلها اشتراكه في مفارز اخرى.
مرة جاءني شاكيا او مستغربا ، من ان هناك رفاق في المقر يأكلون البعض من الحيوانات غير الاليفة او الزواحف.. ضحكت وقلت له انا مثلك سركوت، سوف ابتعد عنهم مئات الامتار عند قيامهم بذلك.
في مقر كافية ، كان هكذا طبع سركوت هادئ وبالكاد يُسمع صوته، حتى يبدو وكأنه غير موجود. إلا اللهم يتوجه بالحديث له عندها نسمع صوته. كان يشمم اخبار المفارز وتحركاتها ويرقب حركة الانصار. حتى مرة جاءني سائلا والقلق بادئ عليه، اين نحن ذاهبون . قلت له سأذهب الى مقر مراني – جماعة بهدينان لزيارة صديقي ابو الفوز، وايضا لجلب التموين من هناك. كان يعتقد باننا ربما ذاهبين الى مناطقنا في ده شت اربيل ولا نريد ان نفصح عن ذلك. وكان ذلك يعكس تشوقه للعمل في المفارز. قلت له خذ هذا الدليل سركوت..!! اثنين من البغال الجاهزة في الاسفل في مقر الرفيق علي رزكة، وهذا.. وقدمت له كيس ابيض داخله " جليكان" – حاوية- فئة خمسة لترات دسه بيدي الرفيق ابو خالد الخياط، مع مبلغ من المال لملئه ب "حليب سباع" من احدى القرى في الطريق الى مراني. تفوح من الكيس رائحة الشراب القوية.
- "ما هذا ؟ " وأخذ يضحك. ثم علق " رفيق دير بالك لا تسكر" أخذ يمازحني. قلت له اسمع رفيقي، افهم رغبتك بالعمل ، ولكن لا تستعجل، يدك لم تتحسن بعد، ونحتاج الى فترة اخرى للذهاب بمفرزة الى سهول اربيل".
- - - - -
لم يكن يوم الثامن والعشرين من اب 1986 عاديا في حياة مقرات كافي، حيث نشطت الحركة بين مقر الفوج والقاطع ، وعلم الجميع ان هناك مفارز سوف تشرع بالحركة نحو اربيل وما جاورها. تحت قيادة الفقيد مام عجيل معاون آمر الفوج الخامس. وهنا جاء دور سركوت العنيد. جن جنون سركوت ، وثارت ثائرته عندما علم ان اسمه لم يكن ضمن اسماء الرفاق المغادرين. والسبب ان يده لم تشفى بعد. فقد نصحه الطبيب بضرورة الاستراحة والاستمرار بالعلاج، لكنه يرفض ذلك ويصر على المغادرة والالتحاق بسريته. سرية "برانتي" المشٌكلة حديثا والتي اتفق لها ان تعمل في سهول اربيل وعهدت قيادتها الى الرفيق ابو احرار.
فشل مكتب الفوج في اقناع سركوت بالبقاء في المقر. كان يصر على ان يده سالمة. كان يناقش ملازم شوان بعصبية حادة " وضعي جيد جدا، ويدي تعمل عال العال، انا اتحمل المسؤولية عن ذهابي" . كانت مخاوف الرفاق عليه مشروعة، فهو ابن الشهيد البطل خضر كاكيل، والحزب يوصي بالاهتمام بأولاد الشهداء ، خاصة وان سركوت نجى بأعجوبة في المعركة الأخيرة، عندها تنفس الرفاق الصعداء. ماذا لو قدر له الشهادة لأصيبت العائلة بانتكاسة كبيرة وفقدان عظيم. لكن سركوت لا يريد ان يفهم كل ذلك. كان يردد ما تعلمه من والده ومعلمه الاول وهو " ان من يحمل السلاح عليه ان يقاتل ". ويصعب أقناعه ان الرفاق في القواعد هم مقاتلين ايضا وقوة احتياطية للمفارز ولحمايات قيادة الحركة ومؤسساتها. سركوت كان عنيدا وعصبي المزاج، حيث تحتدم عيناه بلون أصفر عند تعرضه لمثل تلك المواقف.
عند حضور الفقيد ابو سيروان في المساء لوداع المفرزة، بهت من وجود سركوت في صفوفها. ولكن هو الآخر لم يقدر على اقناع سركوت في عدم الذهاب.
- - - - -
كان سركوت يتسابق مع جيفارا في قطع مسافات ذاك الطريق الوعر من كافية في مناطق الزيبار الى "ريزان" وقرية "سوسة" حيث مقرات الفوج 31 . ومن هناك عبر بيخمة الى سهل حرير، بعد استراحة كافية ليوم او اكثر من ذلك في مقر الفوج 31.
في مناطق حرير طال انتظارنا وعدم اكمال سيرنا تجاه سهول اربيل بسبب الرسائل التي كانت تأتينا من الرفيق منعم المستشار السياسي للفوج من ان المنطقة غير قادرة على تحمل المزيد من الاعداد والمفارز!!!. كنت اعرف بطلان تلك التصورات، والا لماذا كلفنا بالالتحاق بمفارزنا التقليدية، خاصة وانا كأبناء المنطقة اعرف مسراها ومجراها. في تلك الظروف كان سركوت أكثر الرفاق الحاحاً على الحركة، مع العلم قد نظمنا مفارز تتجول في القرى وعدم البقاء في " رزكه".
- - - - -
كان النصيرين "هيمن" و" شوان" وهما من ذئاب تلك المناطق الواسعة في السهول ، قد ابتكروا طريق سريعة لجلب الملتحقين تستغرق ساعات بدلا من ايام طويلة تكتنفها المتاعب. تبدأ الرحلة من سهول اربيل حيث تجمعوا مع المفارز، الى سهل حرير، حيث مفرزة دكتور سعيد التي تنظم استقبال الاعداد الكبيرة من الملتحقين، وارسالهم الى بارزان وكافية. كانت طريقتهم ان يتم شحن الانصار الجدد في سيارة لنقل المواشي، يقودها هيمن او شوان، سالكين طريق يمر عبر ارياف اسكي كلك ثم الانعطاف تجاه مناطق الزيبار ثم مناطق خيلان حيث قرية " ملي ئاخور" المحطة الأخيرة.
فجر يوم 18 ايلول 1986 وصلت سيارة "هيمن" و"شوان" حسب الموعد الى قرية ملي ئاخور، وتوقفت بعد استلام الإشارة من قبلنا، وفتح الرفاق حوض سيارة الشحن، ليخرج منها ستة عشر ملتحقا جدد. كان وجوههم وملابسهم متربة. كان إرهاق الرحلة يفصح عن نفسه في قسمات وجوههم.
بعد تبادل البريد والمعلومات وتسليمهم بعض من الاسلحة التي طلبها الرفاق هناك، شرع هيمن وشوان بالتحضير للرجوع حيث اخفوا الاسلحة والعتاد في السيارة، هنا قفز سركوت الى السيارة وهو ينوي الذهاب مع الرفاق الى مفرزته في سهول اربيل، ويرفض اي ترجل وغير مبالي بحديث رفاقه.
- "سركوت قرار عسكري وحزبي، ترجل" . "انا اقرر الحركة".
اخيرا قلت له، "سركوت سوف نعبر الى هناك من ليل غدا ونحن نحتاج اليك في الطريق لأنك صاحب خبرة وتجربة". عندها ترجل من السيارة التي تحركت قبل ان نرقب اثنين من الطائرات السمتية تقترب من مناطق اختفاءنا في الجبل.
- - - - -
"سركوت" يصر على الرمي واقفا غير مبالي برصد الجحوش الذين اشتبكنا معهم اكثر من مرة في تلك المنطقة. وكان الرفيق كاوة جاوشين وجيفارا اكثر من شددا عليه باليقظة. ومرة كانت هناك طائرات سمتيه ايضا تساند جحوشها.
مشكلة سركوت الكبرى والرئيسية هي انه شجاعا وغير مبالي بالموت.
كان سركوت يطلب الاشتراك بأي فعالية ينوي رفاقه تنفيذها .عند بدأنا العمل في مفرزتنا الجديدة. كان يعمل بمعية البطل عادل شبك الذي طلبت منه الاهتمام به وعدم زجه في اية حركات فيها مخاطر. لكن سركوت كان اسد لا يخاف وهو ينقض على فريسته في عمليات المطاردة لأزلام النظام على شوارع اربيل وديبكة ومخمور والكوير. وكم يكون فرحا عند الغنائم الدسمة.
كان سركوت يثير غضبي حتى اصطدمت به أكثر من مرة لثوريته المفرطة. مرة قلت له عبارة سمعتها من المناضل قادر مصطفى قالها بحق واحد من انصارهم" اسمع سركوت انت تستشهد، تستشهد لا محال، ولكن انت مستعجل على الشهادة". وللأسف صدقت توقعاتي. فهذا الشاب الثوري وسليل ذاك الاسد كاكيل ، كان لا يهاب العدو مطلقا. وكان لا يحسن التمترس والذود عن جسمه جيدا عند المواجهة.
بدأت قوات السلطة هجومها علينا في قرية "هيلوه" صباح 13 تشرين الثاني 1986 حيث حشدت السلطة عشرات الالاف من ازلامها ودباباتها وطائراتها السمتيه، وبدأت جبهتنا تشتعل. كانت بنادق سركوت ورفاقه عادل شبك و ممتاز و سمكو والآخرين قد اوقفوا تقدم القوات في الجبهة الجنوبية الشرقية للقرية الكبيرة، واثخنوا العدو ضربا، لذا لم يكن لدى السلطة غير سلاح المدفعية و صواريخ الطائرات السمتيه التي مزقت اجساد الشباب الابطال سمكو وممتاز وجرحت سركوت. للأسف كان جرح سركوت بليغا. وكان بحاجة الى نقله الى مشفى واجراء اكثر من عملية جراحية له للحفاظ على حياته. ولم تنفع كل محاولات اطباءنا في الابقاء على حياته.
عند العبور الى قرى ملكية في طريق انسحابنا ، وتحديدا عند الفجر في قرية " دوكلة" ودعنا البطل سركوت متأثرا بجراحه، ليلتحق برفاقه عادل وسمكو و بيشرو. عندها طبع رفاقه قُبل الوداع على جبهته العلية.
سركوت تركتنا حزانى، وتركت في القلب الف غصة. المجد لك ولجميع رفاقك الشهداء .

بعد استشهاد سركوت " عثمان خضر كاكيل" صدر العدد 8/كانون اول/1986 من نهج الانصار فيه لقاءا مع البطل سركوت حيث التحق بالانصار صيف 1983 في سرية روست . وقد شارك بعدد من المعارك والعمليات قبل ان ينظم الى مفرزة "برانتي". وهو هاو للشعر و القصة القصيرة.