علامات الإستغراب والدهشة بدت واضحة في ملامح صديقي الشاعر، وهو يستقبل كلماتي  القصيرة والحازمة:

 -أسرك يا صاحبي في أني سأترك هذي المدنية والدرس، ذاهبا لجبال البلاد البعيدة، صوب  خيار الكفاح المسلح، هناك قريبا من ناسي، ومن حلمهم في وطن جميل آخر..

لحظات من الصمت والاستغراب كنت أقرأها غير منتظر لرد محدد أو تعليق .

أتذكره جيدا ذلك المساء الذي جمعني بصاحبي الشاعر القادم لزيارة المدينة والتمعن في مكنونات الجمال فيها، وكنا منسرحين في جولة نزهة فوق جسر كارل فوق نهر الفولتافا البراغي الساحر ..

- كيف لك يا نجم أن تترك هذه المدينة الخرافية المذهلة في كل تفاصيلها، وأنت تعيش وتدرس فيها؟.

لم ألومه كثيرا وهو يرسل انطباعاته، ولم أقدر في تلك اللحظات على البوح له بكل تلك الصور والتضاريس والأحلام والآمال التي تعذب دواخلي..صور الناس المعذبين والمقهورين في مدن الوطن وقصباته وقراه، وكل ذاك العويل والصراخ الطافح من أرواح الناس الذين طحنتهم ماكينة قهر سلطة العنف والديكتاتورية...  في ٢٩ آب ١٩٨٢ غادرت براغ باتجاه دمشق، ومنها نحو القامشلي والحدود،  ومن ثم الوصول ودخول الوطن الذي أرغمت على تركه... وفي آب من عام ١٩٨٩ غادرت الوطن  من منطقة نوكان وناوزنك باتجاه مدينة (نغده) الإيرانية ومنها صوب مدن وتضاريس أخرى... تفاصيل وذاكرة ومشاعر تلك المغادرة كانت موسومة برائحة رصاص وقنابل ومدافع حملات أنفال الأنذال ربيع ١٩٨٨وكنت قد شهدت أحداث وتفاصيل تلك الجرائم، وعبر ليال طويلة من المراباة والتواجد في قمم جبل (بنه باوي)، لمنع هجوم مرتزقة السلطة وعساكرها، وأيضا في المراباة سوية مع رفاقي من انصار سريتي قرجوغ، فوق سلسلة الجبل المطلة على باليسان والقريبة من جبل سفين، ثم في المفرزة البطولية السائرة من منطقة (كافية) صوب الحدود التركية والإيرانية، ودخول الوطن عبر قرية جويزه الحدودية...  ٢٥ عاما كان عمري حين صرت نصيرا شيوعيا بيشمركه، وحسب الوصف العراقي كنت في كل حيلي وقوتي وشبابي وسط الجبال والسهول والهضبات والقرى ومزارع الحنطة والبطيخ وسواقي الأنهر وعيون الماء، وكنت مستغرقاً في متعة ولذة الشعور بالإنتماء للأرض والجبل والحلم الجميل. ولست نادما ولن أكون في يوم ما لأني مضيت في تلك الرحلة الهائلة الطموح والقديسة المعاني، وهي تقربني من أزهار الجبل العجيبة الألوان، ومن مباهاة شجر البلوط، وعظمة سيقان شجر الجوز وظلاله ولذة وفيء نهاراته... كيف لذاكرتي أن تمحي صورة ذلك الفلاح المعدم في تلك القرية المنسية في منطقة (وادي الشرغه)، ليس بعيدا عن هضبات مدينة كويسنجق، وهو يرفع غطاء الإزار عن أطفاله الصغار الغاطين في النوم، ويقول خذوه فأن البرد قارس في جامع القرية، وكنا قد طرقنا باب كوخه في ليلة باردة طلبا لبطانية نتدفأ بها للنوم .

 سبع سنوات علمتني أشياء لا تعد، وأرتني صورا، وأسمعتني قصصا وحكايات، وقربتني كثيرا من الفلاحين والناس، من تفاصيل حياتهم وأشكال كفاحهم وكدحهم... في استذكار تفاصيل وصور ومشاهدات ذلك الزمن، يظل سطوع لوحة اللقاء والتعاضد مع رفاق الدرب القادمين من أنحاء العراق بجباله وسهوله ومدنه، هو الأبرز والأكثر حميمية... أتذكر كل تلك الوجوه والأسماء الجميلة، كل الذين شاركتهم الوجع والألم والحلم، في المفارز البطولية، في سهول اربيل ومخمور والكوير وكويسنجق، في بشت ئاشان وبارزان وريزان وكافية، وكل تلك القرى والجبال والوديان والسلوك والهضبات.... في الجبل اخترت اسمي رياض لتعلقي بالورد والزهر، ولأن في الجبل والأنصار كان من سبقني في اختيار هذا الاسم، فقد صار اسمي رياض قرجوغ،  تمييزا عن  بقية رفاقي الحاملينله، خصوصا وأني كنت مع سرية قرجوغ طوال زمن وجودي في الأنصار تقريبا... وأكثر ما كان محببا لقلبي مناداة رفاقي الأنصار الكورد لي (أبو الروز)،  لصعوبة نطق الضاد... والروز هو الورد والرياض

عن دورية (النصير الشيوعي) *