وأنا في كردستان ضمن حركة الانصار، كان حلماً يراودني، ان اعود الى بغداد للأطمئنان على امي ومواصلة نشاطي السياسي هناك. سبق وان قمت لتحقيق هذا الهدف، بزيارة قاطع بهدينان (قيادة حركة الانصار)، لأتخاذ مايلزم في إصدار هوية وتصوير ...الخ، تحضيراً للنزول الى بغداد.

الان، حان الوقت لتنفيذ هذا الحلم، حيث أُعلن عن إيقاف الحرب العراقية - الإيرانية في آب 1988، وبدأ طيران النظام الفاشي يحوم حول مقراتنا واخبار اجتياح المنطقة بدأت تتوارد إلينا .

وكان الرفاق المعنيين في قيادة تنظيم الداخل، قد سبق وأن طلبوا مني اختيار اسم اعتمده في تحركي للنزول الى بغداد لتسجيله في بطاقة الهوية المزورة، وبلحظة اخترت اسم (جنان حنا گورگيس) والى هذه اللحظة لا أعرف لماذا اخترت هذا الأسم بالذات؟!.

اتمنى  ان يسمح لي ما تبقى من العمر لأسرد تفاصيل مسيرة اعتز بها .

من عالم الجبال الى بغداد الحبيبة!!

انطلقت سيارة (النفرات ) من گراج الموصل الى بغداد الحبيبة، وكلي أمل ان تسير الأمور على مايرام.. في كل توقف لسيطرات (الأنضباط العسكري)، أتظاهر بالنوم وعيناي نصف مغمضتين، الاحظ توجه رجال السيطرات مباشرة الى الشباب والعسكريين تحديدا والسؤال التقليدي: وين هويتك؟.!!

وصلت الى گراج النهضة، وفوراً استأجرت تاكسي الى منطقة الميدان وتحديداً مقابل جامع الحيدر خانه حيث مكان عمل خالي (ستوديو الأهلي)، وأخترت محل صغير لتصليح الساعات لكي اسأل صاحبه: عمي تعرف وين المصور الأهلي، فكان جوابه: محل عبد الرحمن مو؟ ليش متشوفين؟ هذا بصفي!!.

توجهت للمحل، ووجدت شاباً بمفرده، فكان جوابه: إستاد قدري يداوم بالمجمع العلمي بالنهار ويتغده بالبيت ويرجع بعد الساعة أربعة..

لامناص من قضاء ما تبقى من الوقت بالمنطقة، ورجعت للمحل وانتظرته، وهاهو قد حل وشاهدني بعد فراق طويل، وبعد عناق ودموع، سحب خالي هذا الشاب المساعد وطلب منه ابقاء خبر وصولي سراً .

اتصل خالي بأمي مراراً ولم يعثر عليها، وقرر لحظتها التوجه مباشرة الى البيت، وسألته: معقوله نروح لبيتنه مباشرة؟ فكان جوابه: لتخافين ..وعند وصولنا للبيت، بادر خالي موجها كلامه لأمي من خلف الباب: جايب وياي ضيف!.

وانا اتخفى خلفه بناءا على اتفاق مسبق للمفاجأة الجميلة !!.

شاهدتني ورفعتني من فرحتها ودارت بي في اروقة البيت  ..

في الليلة الاولى، عدت الى عادتي القديمة في النوم بجوارها، وشاهدتني حينها أطارد مخلوقاً غريباً جلبته لها من مكان مجهول!!.

- بنتي هاي شبيچ ؟

- ماما هاي برغوثه دمرتني ولاحگتني لبغداد ولازم احرگهه واحرگ ابوهه!!

- أدري إنتي منين جايه لخاطر الله؟!.

* الشاب المساعد في محل خالي كان احد الأقرباء وهو ماجد نهاد علاء ..

من گلي مراني  الى حضانة الزهور ..

مقر مراني كان موقع عملي ضمن حركة الانصار في كردستان، خضت فيه تجربة فتح مدرسة لأطفال المنطقة سوية مع نخبة من الرفاق  سيأتي الحديث عنه لاحقاً..

عند النزول الى بغداد وخوض تجربة الاختفاء، والحصول على وثائق رسمية، كان لابد من التفكير في الخروج من اجواء البيت والبحث عن عمل اساعد فيه امي في تكاليف العيش ..

حضانة الزهور في الداوودي هي الحل !!

استفدت من علاقة قديمة مع مديرة الحضانة، حيث كنت أرافق ابن اختي وصفي للدوام ولا انسى هنا دور بنت العم د. فاطمة كامل في تسهيل امر التعيين ..

لم تتردد المديرة من قبولي في العمل، بل كانت سعيدة في انتمائي للأسرة التعليمية ..

عند المباشرة بالعمل حاولت ان أغير برنامج عمل هذه الحضانة التي كانت تكتفي بألعاب محدودة، فادخلت مادة ألعاب رياضية والرسم والاستماع الى الموسيقى وقراءة القصص وتعلم بعض المفردات الانكليزية..

اخذ صيت الحضانة يتسع وطلب الانتساب يكبر من مناطق اخرى ..

وللطرافة وصل أحد الآباء الى الحضانة وسألني: سمعنه وصول مدربات أمريكيات ينطون دروس اللغة الانگليزية؟ هل هذا الخبر صحيح؟

- عزيزي ماكو اي أمريكية بهاي الحضانه، يجوز بحضانة ميكي ماوس أو غيرها !! آني اللي انطي الدروس !

- باجر راح اجيب أطفالي ، والله يبارك بيكم ..

ملحمة الرجل  الـ 12 وانسحاب مراني

تابعت بالامس الفيلم النرويجي (الرجل الثاني عشر) على النتفليكس، قصة الفيلم حقيقية تتناول حياة المقاومة النرويجية ضد القوات النازية في الحرب العالمية الثانية، وتتلخص في بقاء رجل على قيد الحياة بعد تصفية رفاقه الـ 11 على  يد القوات الغازية..

واجه اثناء الانسحاب والاختفاء ومحاولة الهروب الى السويد صعوبات قلّ نظيرها، وكان مساعدة الاهالي له ومغامرتهم في اخفائه وتهريبه بطولة اضافية تتسم بالتضحية والاقدام..

لا أدرى لماذا برزت امامي احداث المقاومة البطولية التي جسّدها أنصار الفوج الاول في منطقة بهدينان ودعم الاهالي لهم اثناء تقدم قوات النظام المقبور في شتاء 1987..

تكاد تكون الظروف الجوية وقساوتها وصمود الانصار امام ماكينة حرب ضخمة يمتلكها النظام وظروف مشابهة الى حد ما مع ملحمة الرجل 12 التي تجسدت في اعمال فنية متنوعة، واماكن اختفائه اصبحت مزاراً للاجيال اللاحقة..

الا يستحق موقع مراني وسواه منا الاحتفاء والاستذكار؟.