ترجلنا من السيارة التي استأجرناها من كراج الموصل إلى مجمع باعذرا، والذي رفضَ سائقها ايصالنا إلى قريتي خورزه و كرساف خوفاً من (العصاة) حسب تعبيره مقترحاً إيصالنا الى القوش:
ــ سيساعدكم ابن أختي ضابط في أمن القوش. أقترح ذلك بعد أن حكى رفيقنا الجالس جواره في المقعد الأمامي، كوننا نقصد المتمردين لأقناع زوجي بالتسليم والاستفادة من العفو عن الهاربين في تلك الأيام. كان السائق على وشك أن يضاعف السرعة ويأخذنا إلى جهنم والأقبية حيث قرر الله وملائكته التبرؤ من خلقه الداخلين فيها لولا قرار زوجي - سلام إبراهيم - (أبو الطيب) وتقديره خطورة الموقف، وحكمة تصرفه في لحظة كانت حاسمة.
قال لي زوجي أمراً أخلعي حذائك!
- لماذا؟ سألته
- ليس لدينا وقت، هل ترين تلك البيوت الواقعة على حافة الجبل، لابد لنا أن نصلها قبل أن يصل سائق التاكسي إلى القوش.
كنت مرتدية تنورة قصيرة وحذاء ذو كعب عالي وفوق كل هذا كنت حامل في شهري الرابع. تشبثتْ أصابعي المرتجفة رعباً بكفه التي كانت تنضح عرقا، وهببنا راكضين وسط حقول مسقية تمتد من الشارع المبلط حتى حافة الجبل، وصوت جرار زراعي سمعناه من شدة الارتباك وكأنه مراوح طائرة هليكوبتر. وصلنا أول بيت فرأينا امرأة ترتدي ثوبا فضفاضا زاهي الألوان منهمكة في سجر التنور سألتها بكرديتي البسيطة التي تعلمتها في دراستي الإعدادية عن بيت الرفيق "عيدو" أجابتني مؤشرة بيدها نحو بيت مجاور يقع على مرتفع بسيط .
استقبلنا الرفيق عيدو بوجهٍ باسمٍ مرحباً بنا وبنفس الوقت متسائلا عن كيفية وصولنا بهذه الطريقة ووحدنا بدلا من المتفق عليه وهو الذهاب إلى الشيخان حيث تنتظرنا هناك سيارة أجرة يقودها رفيق من التنظيم المدني. أخبرناه بما جرى، الالتباس وسوء الفهم، وعدم معرفتنا بجغرافية المنطقة، وشكوك السائق الذي استأجرناه.
دخلنا بيت الرفيق المشيد من الحجر والطين على حافة جبل -القوش- احتفوا بنا، كنتُ سعيدة من الأعماق لنجاحنا في الوصول بسلاسة وسرعة، وظللنا نتحاور وقتاً طويلاً عن الحياة في المدن تحت ظل الحرب. مع غروب الشمس وحلول أول خطوط الظلام، استبدلنا ملابسنا المدنية، إذ أعطوني ملابس بيشمركة - سروال وقميص وبشتين* وجماداني* ساعدني زوجي في كيفية ارتدائهما. تناولنا وجبة العشاء على عجل متحلقين حول صينية الطعام (صحن برغل، لبن رائب، بصل وخبز حار) هذه الوجبة سنعتاد عليها في سنوات الجبل العجاف.
انتابتني مشاعر غريبة كانت مزيج بين الفرح بالخلاص من جهنم الاعتقال والشعور بالاغتراب وترك ولدي ابن الثلاثة أعوام لدى أهلي خوفا عليه من مخاطر الطريق والمصير المجهول.
اثناء ساعات الانتظار سألت الرفيق "عيدو" عن بيت الراحة (التواليت). نادى على زوجته كي تقودني إليها، فأقبلت باسمة الوجه ورافقتني خارج المنزل إلى العراء وفي عينيها ألف سؤال عن خوض تجربة الكفاح المسلح والعيش في وسط رجالي بحت وليس هذا فقط، بل بين شباب محرومين من رؤية النساء ورائحة ودفء العائلة، ظلت تتفحص وجهي في المسير إلى أن سألتني:
- أنتَ متزوج؟
أجبتها وعلامات الاستفهام على وجهي أكثر من صيغة التذكير في سؤالها المرتبك.
بمرور الأيام اكتشفت أن أغلب النساء غير متعلمات وكذلك بعض الرجال لديهم مشكلة في التأنيث والتذكير.
مع حلول المساء اصطحبنا الرفيق "عيدو" باتجاه الجبل، تملكتني رغبة شديدة في حمل بندقية كانت حلما لي وللرفاق في مدينتي الجنوبية، حلم ورغبة نمت منذ مراهقتي وأنا ألتهم قصص وروايات الأنصار الشيوعيين وهم يعملون خلف خطوط العدو النازي في الحرب العالمية الثانية، وقبل خروجنا جهرت برغبتي في حملها فناولني الرفيق بندقية كلاشنكوف نصف أخمص حملتها على كتفي، فالتهب حماسي وتقدمتهم من فرحي في المسير، وبغتة وجدت نفسي محاطة بعدد من الكلاب تنبح وكأنها شمت رائحتي الغريبة عن المكان، تَجمدتُ في مكاني وكأني صخرة، تَقّطعت أنفاسي رعباً، نشف الدم في عروقي، لحقَ بي زوجي والرفاق فهدأت الكلاب وابتعدت.
بعد مسير أكثر من ساعة بين الوديان وصلنا مكانا منزوياً قرب القمة، توجه "عيدو" وأزاح شجرة إيفرست لصق صخرة كبيرة جدا فانكشفت فتحة ضيقة. التفت إلينا وقال:
- ستدخلون هذه المغارة زحفاً. وتباتون ليلتكم فيها.
كنت كبلهاء التي لا تفقه ما يدور حولها. كنت أركز لمعرفة كيف أتعامل مع هذه الحياة الجديدة والغريبة عليّ، طبيعة وعرة، لغة لا أفهم منها إلا القليل، حياة بدائية جدا. كنت منقادة تماما إلى ما يقوله رفيقي "عيدو" وزوجي. بقينا ثلاثة أيام مدفونين في تلك المغارة، نقضي النهار بين جدرانها الرطبة وظلامها خوفا من الطيران السمتي -الهليكوبتر- ونخرج مع الغروب وخطوط الظلام لنعب من هواء الجبل المنعش ونكحل أبصارنا بنجوم السماء.
كنت أسرح بعيدا إلى مدينتي الدافئة بأنفاس أمي وأبي وكركرات طفلي الذي تركته وفي قلبي غصة. في اليوم الثاني من وجودنا في المغارة جاءنا رفيق اسمه - ابو مناف- زحف داخلا وجلس بهيئته الواثقة وابتسامة خفيفة رسمت تقاطيع وجهه الصارمة، بشاربه العريض و نظراته الحادة و المتفحصة. تجمدتُ في مكاني حين سمعت حركة إزاحة شجرة الإفرست المموهة، ولكن البهجة التي ارتسمت على وجه زوجي خففت من وطئ مشاعر الرعب والخوف.
أخذه زوجي في الأحضان مرحبا وهو يردد
- سبهان هذا أنت!
فعلق على الفور
- أبو الطيب سبهان موته، ناديني (أبو مناف).