عندما اشتدت الازمة السياسية في البلاد أواسط عام 1978 وانهار التحالف الجبهوي بين حزبنا الشيوعي العراقي وحزب البعث، وراحت اجهزة النظام القمعية تلاحق الشيوعيين في كل مكان، اضطررت الى مغادرة العراق، فسافرت وحسب توجيهات الحزب الى الاتحاد السوفيتي لغرض الدراسة الحزبية. وبعد مرور ما يقرب من عام، وفي الشهر السابع من سنة 1979 تحديدا، وتلبية لنداء الحزب، عدت الى مدينة دمشق ومنها توجهت للتدريب في معسكر معلولة على الحدود السورية التابع للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الذي أمضيت فيه أكثر من شهرين.
كُلفت والرفيق سامي سلطان (أبو عماد) الذي رافقني الرحلة ومجموعة اخرى من الرفاق من موسكو الى دمشق، بالالتحاق بصفوف الأنصار كمجموعة أولى، فتوجهنا الى القامشلي، ومنها عبرنا الى مدينة (نصيبين) التركية وفق ما هو مخطط، وكنت مكلفاً بالاتصال بأحد اعضاء حزب (كوك) الذي لديه محلا تجاريا يقع في مركز المدينة، وفور وصولنا اغلق الرجل محله، وتوجه بنا الى بيت الرفيق حسن عضو اللجنة المركزية لحزب (كوك)، وقد استقبلنا الاخير بحفاوة بالغة في منزله على الرغم من لغته العربية الركيكة. وبعد الانتهاء من تناول الطعام بوقت قصير، سمعنا جلبة اصوات وحركة غير اعتيادية عمت البيت، ثم بدأ عويل وصراخ النساء من دون ان نعرف ايّ شيء، وفي نفس الوقت، نهض الرفيق حسن مسرعًا بعد أن سحب مسدسه من تحت الوسادة التي كانت فوق السرير الموجود في الغرفة التي كنا نجلس فيها، ثم التفت ناحيتنا، ورغم الحزن الشديد الظاهر في ملامح وجهه، وطمأننا بأن شخصا سيأتي ليأخذنا الى مكان اكثر آمناً، وخرج دون ان نفهم ما الذي حصل، وما هو الخبر المفجع، سوى أشارة من يده، تدعونا الى البقاء في البيت.
بعد ان مرّ وقت قصير على مغادرة حسن البيت، وابو عماد وانا وسط هذه الفوضى من الحزن والبكاء، جاءنا شاب نحيف طويل وبمقتبل العمر، أومآ لنا بمرافقته وبسرعة، وكنّا لا نجيد اللغة الكردية ولا اللغة التركية، فلجأنا الى استخدام لغة الاشارات للتفاهم معه. خرجنا من البيت، يتقدمنا الشاب بمسافة، ونحن مع حقائبنا نسير خلفهُ من دون ان نعرف محطتنا المقبلة، كنّا نتعثر بالحفر حيث سلكنا طريق الارض المحروثة حديثا.
اخذنا الدليل في ذلك المساء الموحش والكئيب!، الى احد الاحياء السكنية الفقيرة الواقعة في اطراف ناحية (نصيبين)، وبعد هرولة مرهقة دامت أكثر من نصف ساعة، وصلنا الى بيت شبه مهجور، فأستفسر منّا الشاب، ان كنّا نجيد اللغة العربية؟، وبصوت واحد اجبناه بنعم، فقد كنّا متلهفين لمعرفة ما الذي جرى، اجابنا بلغة عربية فصيحة ان منظمة (ب ك ك) أغتالت الاخ الاصغر للرفيق حسن في داخل سوق مدينة (نصيبين) وقررت منظمة (كو ك) الثأر لمقتل رفيقهم، ولذلك تم نقلنا بهذه السرعة من أجل سلامتنا.
بعد يومين من الحادثة، وبعد تشييع الشهيد ودفنه، وفي اجواء التوتر التي سادت المنطقة التي كانت تخضع للاحكام العرفية في ذلك الوقت، والانتشار الكثيف لقوات الجندرمة التركية، جاءنا احد اعضاء حزب (كوك)، وقام بنقلنا الى بيت احد نشطاء الحزب، يدعى درباس، والذي بدوره اوصلنا بعد مسيرة صعبة وشاقة استغرقت عدة ايام الى قاعدة (كوماته) في كردستان العراق، حيث استقبلنا في تلك البقعة البعيدة من ارض الوطن، كوكبة من الشيوعيين البواسل الذين كانوا قد سبقونا اليها. كان شعورنا لا يوصف في تلك الاثناء، وفرحتنا لا مثيل لها، بينما رفاق هذه القاعدة التي يشرف عليها الرفيق احمد الجبوري (ابو ازدهار) والرفيق ابو يعقوب، اخذونا بالاحضان، حتى انّ سهرتنا في تلك الليلة امتدت الى فجر اليوم التالي. وحال وصولنا في نوفمبر 1979 باشرنا معهم بتأسيس أول قاعدة للأنصار الشيوعيين العراقيين.