من عرف كرميان، فقد عرف حرقة شمسها اللاهبة، عرف ذلك السهل الكردستاني الواسع، عرف ناسها الطيبين، عرف الفلاحين الفقراء، الرعاة، عرف الجرأة واقتحام المصاعب. اما شتاء كرميان، فأنه وبالرغم من عدم هطول الثلوج، فهو بارد قارص ويتجمد فيه كل شئ، ويختبئ اثناءه كل شيء، الاّ الانصار الشيوعيين، حيث تتجمد الارض تحت اقدامهم وهم يرسمون خطواتهم الثابتة عليها وانظارهم تتجه صوب تلك المدن المتناثرة المحصنة.
في ذلك اليوم الشتائي 6 كانون الثاني1983 كان فصيل من سرية كرميان، السرية الرابعة البطلة قد وصل قرية قريبة من مدينة كفرى، فاستقبلهم الفلاحون واستضافوهم، ومن دون ان يشعر الاخرون٫ تكتلت مجموعة صغيرة منهم، في احد البيوت الجانبية، وبعد ان تناولوا ما تيسر من الخبز بسرعة، خرجوا من البيت، وواصلوا المسير وسط الظلام، دون ان يشعروا حتى بقساوة ذلك الهواء البارد الذي كان يلفح بوجوههم دون رحمة.
كم تبعد مدينة كفري من هنا، ساعتين في الطريق العادي، وست ساعات بطرق الانصار الخاصة؟ اجل، وفي مثل هذا الظلام الدامس يجب الاسراع ولكن ذلك سيعني المزيد من التعثر والمزيد من المصاعب غير المحسوبة، وربما يعني التاخر. مازال امامهم ساعتين، لكنهم وبعد ان حسبوا في مخيلتهم تلك الطرق ومصاعبها، ادركوا، انهم لن يصلوا خلال هاتين الساعتين، فغيروا طريقهم بآخر اكثر سهولة، لكنه اكثر خطرا، وساروا بحذر.
كانت حواسهم يقظة، متوثبة لأي طارئ، حتى استطاعوا اجتياز تلك المسافات الطويلة الوعرة منها والاخرى المفروشة بالحصى والاحجار المختلفة الحادة، اجتازوها، واصبحوا عند نهر المدينة بوقت مناسب جدا، ومن دون ان يستغرقوا في التفكير، عبروا النهر رافعين اسلحتهم عاليا، وهم يتحسسون قاع النهر باقدامهم، والمياه تغمرهم حتى اعلى منتصف اجسادهم، فحرصوا على اسلحتهم وعتادهم ان لايصيبها البلل. كانوا متعبين ويتصببون عرقا وهم يشقون امواج النهر. هل لسعتهم برودة المياة الثلجية؟، تبللوا لايهم، لم يشغلهم ذلك، عبروا النهر واجتازوا بعض المزارع التي كانت عبارة عن ارض طينية متجمدة، متجهين بخفة وسرعة صوب الشارع الرئيسي في المدينة، كانت معلوماتهم دقيقة واستطلاعهم اكثر دقة، بحيث عرف كل منهم موقعه في العملية، مدركين تمام الادراك ان هذه المواقع محاطة بربايا عسكرية خطرة، يشغلها افراد الجيش اللاشعبي من ثلاث جهات.....
لماذا تنام المدينة العراقية في وقت مبكر!؟، ترى اهي نائمة حقا؟، وهذا الهدوء المخيف تحت الاضواء الكاشفة للربايا المنتشرة في كل زاوية من المدينة، جعل منها مقفرة، خالية، ولاحق لاحد التجول في شوارعها، الاّ هؤلاء الانصار الذين ارادوا كسر تلك القاعدة المفروضة على اهل المدينة.
كان الانصار، وكل من موقعه يراقبون كل شيء، يتابعون بعضهم بعضا، منتظرين هدفهم، تلك سيارة المخابرات الوحيدة التي تجوب المدينة، لتراقب التزام الاهالي بقراراتهم العسكرية الجائرة.
انتظروا طويلا، وصار الهواء البارد يفعل فعله باجسادهم، وهل من جامع بين العطش الرهيب وبرد الهواء القارص الذي جفف ملابسهم المبتلة كما جفت افواههم عطشا، ماذا يفعلون هنا؟، وكيف سينجون بانفسهم بعد ان بدأ ظلام الليل يجر ذيوله تدريجيا، اين هي تلك مفرزة المخابرات، التي نشرت الرعب بين الاهالي الطيبين، هل كان استطلاعهم ليس دقيقا، كلا: فها هي اضواءها الخافتة تظهر من بعيد، تسير ببطء شديد، تراقب كل جادة وكل فرع من فروع الشوارع.
تهيأ الانصار، تاركين اجسادهم تلتحف البرد، ونسوا عطشهم وجفاف افواههم، وصوبوا بنادقهم نحو الهدف منتظرين اطلاقة الاشارة من بندقية النصير المكلف بها. وما ان وصلت سيارة المخابرات في المكان المحدد، حتى امطرتها بنادق الانصار بوابل من الرصاص، هلعوا، وحاول سائقهم الاسراع والافلات وهو يدير مقود السيارة الى اليسار، لكنّ نيران الانصار المتحدية والمصرة على انهاء دور مفرزة الرعب المخابراتية هذه، اجبرتها على الاصطدام باحد الجدران، فلم ينجوا الا سائق المخابرات الذي اصيب بجروح خطيرة.
صحت المدينة، وهاج ازلام السلطة، وراحوا يطلقون النيران بكل الاتجاهات، وفي كل الارجاء، وكانهم يطلقون النذير ليخففوا من الرعب الذي اصابهم، لكن الانصار ووسط تلك النيران، كانوا قد اجتازوا تلك الحقول الطينية، ثم وصلوا الى النهر وعبروه، بينما الرصاص يمر فوق رؤوسهم.
صحت مدينة كفري وادركت وجود الانصار الذين كانوا في تلك اللحظة قد اعتلوا التلال الصخرية المطلة عليها، فظهرت محتفية بابطالها المجهولين الذين ناصروها، لتتحول الى كرنفال عم كل الارجاء حيث كانت تطلق رصاصها الملون معلنة عن يوم فرح، ومحتفلة بالانصار الشيوعيين الذين يستطيعون الوصول الى المكان الذي يريدوه مهما كانت الصعوبات.