- رفيقة سعيدة حراسة أولى. وثم وجه كلامه إلى باقي المفرزة؛
- ويبلغكم الرفيق أبو سالم الحراسات الليلية.
أعلن ذلك رشيد واستمر مع المفرزة التي تسير خلف المختار وآمر السرية ومستشارها السياسي في توزيع الأنصار على بيوت القرية.
المفرزة دخلت القرية عند الغروب وكان جوها ملبداً بالغبار الذي أثارته مع رائحة أجسادها، الأبقار والأغنام والماعز العائدة من المراعي المحيطة بها.
تبعت سعيدة الرهط السائر خلف آمر المفرزة والمختار لأن رشيد لم يوضح لها أي شيء عن مكان الحراسة ولا عن المواقع التي يخشى الخطر منها. فلم يمض على وجودها في المفرزة سوى ثلاثة أيام وقد تم إعفاؤها من الحراسات الليلية في اليومين الماضيين. ففي النهار عندما تكون المفرزة في أحد الوديان كان الحارس الذي يسبق يعطي معلومات عن المواقع العسكرية القريبة من مكان الاستراحة، وعادة يكون المرقب على مرتفع وفي وضح النهار والمقاتلون منتشرون في مكان واحد يسهل الاتصال بهم.
الحراسة الأولى لا تشكل خطراً كبيراً لأن جميع الأنصار وكذلك أهالي القرية مستيقظون والحركة غير منقطعة في القرية، ولذا تكون في بعض الأحيان مقتصرة على النصيرات، حين تكون القرية بعيدة عن مواقع السلطة.
عندما بقيت المجموعة الأخيرة المتكونة من آمر المفرزة ومستشارها السياسي وأمر الفصيل رشيد الذين سيكونون من حصة المختار لفت انتباههم أن سعيدة تتبعهم.
- ها رفيقة ! لمَ لمْ تذهبي للحراسة؟ خاطبها رشيد باستغراب.
- رفيق! أنت لم تخبرني عن مكان الحراسة ولا أي تفصيلات عنها!
- أسف رفيقة. نسيت أنك جديدة! الحراسة في المقبرة.
- ها! أين!؟
- لحظة أنا قادم معك.
"المقبرة ووقت الغروب! يا لها من مفاجأة مقلقة. المقبرة وعند الغروب!" كلمت نفسها.
- رفيق! لم في المقبرة؟ ألا يوجد مكان آخر؟
- هو أفضل موقع.
- وأهل القرية لا يمانعون ؟!
- لا! بموافقتهم.
كانت تتبع خطواته الواسعة ومشيته العجلى بما يشبه الهرولة، فهو طويل القامة وهي قصيرتها. ولكن رهبة المقبرة وعند الغروب لا زالت تهز بدنها. والمساء بدأ يدفع بقايا ضوء الغروب خلف الأفق. المقبرة والليل وحكايات الجدات والأمهات عن الطناطل والسعالى الذين يجوبون المقابر والساحرات اللواتي ينبشن القبور والمجرمون الذين يجعلون منها ملاذاً، كل ذلك دار في مخيلتها وهي تلهث لاحقة برشيد: "أول حراسة ليلية في المقبرة! في قرية لا أعرف أي معلومة عنها ولا حتى اسمها!"
خرجا من القرية صوب مرتفع توزعت عليه أشجار باسقة وبرزت بينها شواهد القبور بأحجام وارتفاعات متباينة لتزيد من رهبة المكان ووحشته. كان المكان محاطاً بسياج من جذوع وأغصان تشابكت بينها بعض النباتات البرية، وشكلها غير المنتظم يضفي هو الآخر بعض الغموض على المحيط.
دخلا من الباب المربوط بحبل من شعر الماعز وقادها إلى أعلى المرتفع الذي يشرف على المنطقة من جميع جهاتها لولا وجود تلك الأشجار العملاقة القديمة.
- رفيقة ركزي على هذا الطريق الترابي فهو يصل إلى ناحية ماﻧﮔﻳﺶ. مع السلامة!
- مع السلامة رفيق!
هي الآن وحدها في المكان وتحيط بها من جميع الجهات شواهد قبور موتى لا تعرفهم. إنه امتحان صعب. ستقف بوجه كل عناصر الحكايات عن المقابر وكذلك أمام احتمال تقدم السلطة. إنها تتحدى! اللعنة على ميغيل سرفانتس! كم تمنت لو أنها لم تقرأ روايته "دون كيخوت". فقد بدأت بعض الأشجار بالتحرك وكذلك بعض من خيالات مبهمة تغدو وتروح. هو أمامه طواحين الهواء وأنا أمامي أشجار وشواهد قبور وطريق ترابي يؤدي إلى ناحية ماﻧﮔﻳﺶ! تسمرت في مكانها بعدما أسندت ظهرها إلى جذع شجرة وسبابتها على الزناد وإبهامها على عتلة الأمان، فقد سحبت اطلاقة بعدما غادر رشيد.
بعد فترة أحست أن كل شيء أصبح صامتاً وجامداً، حتى جسدها وانفعالاتها وهواجسها. سكون وصمت ولا نسمة تحرك ذلك السكون، لا صوت يخترق الصمت.. الصوت الوحيد هو الطنين المدوي الذي يجول في الأذنين.
بعد انقراض الدقائق الطويلة بثوانيها المسكونة برهبة المكان وضغط الزمان، بدت المقبرة والمنطقة تتوضح بالتدريج. فقد تعودت عيناها على الضوء المنعكس من النجوم وقوس الهلال. استعادت هدوءها وبدأت تلوم نفسها على ذلك التوتر المشوش الذي أربكها وشتت تفكيرها. فلو كان الأمر يحتمل الخطورة لما جازف آمر الفصيل بتشخيصها لتلك الحراسة.. لو كان الخطر كبيراً لأخرجت المفرزة دورية في القرية وعددت الحراسات! ارتخت قبضتها على البندقية. وبعد فترة جلست والبندقية في حضنها وراحت تجول بعينيها على شواهد القبور. مرت عليها لحظات سمحت لها بتأمل المكان والنظر إلى مكوناته بشكل محايد، نهضت وراحت تتجول بحذر في دائرة ضيقة من المكان ثم وسعتها وراحت تنظر إلى تلك الشواهد بلا ريبة أو خوف. صارت المقبرة بالنسبة لها مكاناً لا يثير القلق. عادت إلى موقعها المشرف على الطريق الترابي وقد استعادت ثقتها بنفسها، ولكنها شعرت بشيء من الخجل لتصرفها ذلك، فهي نصيرة مقاتلة وفي مفرزة مقاتلة ومن المحتمل أن تشارك في العمليات العسكرية، فكيف تزعزعت ثقتها بنفسها مع أول اختبار؟! امتلأت عيناها بالدمع وتركته ينساب على خديها وانشغلت عن الحراسة ومراقبة الشارع الترابي. وفجأة خرم السكون صرير صادر من باب المقبرة ودخول شبح يحمل بندقية بيده، فانتفضت بسرعة وفتحت أمان البندقية وصرخت بخوف:
- تو كي!؟ (1)
(1) تو كي! : من أنت باللغة الكردية