ذات مرة كنت أحاور والد سرود الخبير بالزهور عن زهور رأيتها، فكان يقول لي: ( لا أستطيع أن أقول شيئا إذا لم أرها) ، وها أنا أروي قصة تلك الزهور: كنت، وبحكم اختصاصي في الجيولوجيا، أجمع الأحجار المعدنية، وألقي نظراتي عليها، محددا مكانها، متفحصا إياها مسجلا ملاحظاتي في دفتر صغير، ثم أضعها في (عليجتي)، وأنا أجوب أرض كردستان نتيجة ما تتطلبه حركة المفارز المقاتلة، وعندما تصبح (عليجتي) ثقيلة، أفرغها من الأحجار المعدنية، لأنها تعيق خفة الحركة خاصة إذا كنا في مسيرة طويلة تتطلب صعود الجبال، وفي أثناء هوايتي تلك كنت أراقب الورود من سفوح الجبال في أشهر الربيع، إذ هناك حادثة غريبة حدثت لمجموعتنا الجيولوجية في القرم، فقد كنا ندرس، ونبحث عن معدن الحديد، ونحدد انتشاره على الخارطة الجيولوجية، وحالما انتهينا من تحديد موقع الحديد، صعدنا إلى الجبل، وإذا بنا نجد أن خارطة انتشار الحديد مرسومة على الأرض على شكل ورود صفراء، مما أثار تعجبنا وتساؤلنا، حينها تأكد لنا أن هذه الورود ذات ارتباط بتواجد الحديد، وظلت هذه الحادثة تطاردني إلى كردستان، فكنت كلما أنظر من قمة جبل إلى سفحه أتفحص الأرض، وأبحث عن توزع ورود أو نباتات برية، هكذا صرت أرغب دائما الجلوس قرب أي قطع جبلي، يظللني من الشمس، ويمتع نظري بالتطلع إلى الوادي أو السفح، وانتعش من نسيم الهواء، تضرب وجهي رذاذ المياه الهابطة من أعلى الجبل، ينتابني إحساس بالهدوء، والطمأنينة في ظل الطبيعة السخية، المدهشة، الفاتنة، ثم أنقاد إلى حلمي، وحلم الفلاح في الخلاص من الدكتاتورية، وأغتنم الفرح على الأرض التي تشبعت بالخضرة، والأنهار، والينابيع، والزهور، والكفاح الإنساني من أجل أن تنفض عنها الأحجار، والصخور، والأدغال، وتتحول إلى حقول، ومزارع، وبساتين، إذ اندمجت مع الأرض، وشممت تربتها، وعانقت أوراق أشجارها، ولمست وريقات النرجس، وارتويت من أعذب المياه الصافية، وحرثتها بحربتي لأدفن جسدا مخضبا بالدم، بالعرق، بالنبل، وأودعه بالحزن، والدموع، هذه هي الأرض غمرة كفاح، ومسيرة طويلة على الأقدام، يتغلغل شذاها في أعماق الروح، وتتصاعد أنغامها من تغريد طائر الكاو، من خرير الجداول، من همس أوراق الشجر، من تصافح سنابل القمح في نسيم الفجر، دائما تتحدث عن جوهر سري، وتتكلم عن التاريخ بواقعيته، بأساطيره، وتغمر الإنسان بوحدة عميقة لا مثيل لها، تتموج روحه مع بهائها، وتتجدد مع سحرها، في إيقاع الزمن، في عالم مرئي يحيطه، إنها رعشة من التاريخ، يحيا فيها الإنسان خلوده الدنيوي، هكذا كنت أتأمل اللحظة الخالدة، لتتجدد روحي بالحب ومعنى الوجود، وجدوى الكفاح، وأتخلص من تعب المسيرة الطويلة على الأقدام حاملا على كتفي بندقيتي، وعلى ظهري (عليجتي)، ويتغير عندي مشهد العالم، لأكتشف زهورا في القطع الجبلي، حدقت إلى بهائها، وسطوة ألوانها السحرية، ومأثرتها الجمالية المتوازية، المتناسقة، المنسجمة مع إيقاع المياه، كانت منبعثة على حافتي ممر أسود دقيق لمياه هابطة من أعلى القطع لنبع صغير، تحيطها حشائش خضراء، وترتعش رعشة خفيفة حين يداعبها رذاذ الماء، وكلما رحت أقترب منها، وأتفحصها بعيني المبهورتين، كان يتملكني إحساس إنها تنظر إلي، وتدعوني أن أتحدث عن سر، أكتمه في داخلي، وأنا أحاول أن أسترجع ولادة ألوانها بعد أن اتحدت نظراتي معها، كانت بيضاء ناصعة، مزينة ببقع حمراء، ثم أصبحت صفراء فاتحة، مزينة ببقع سوداء، مع هبوب نسيم دافئ، فتساقط قطرا من أوراقها أشبه بدموع حزينة.
يا للعجب! هذا ما قلته مع نفسي احتراما إلى صمتها، وأنا مشوشا، عاجزا أن أكلمها، بغتة تضرجت بحمرة كأنها فتاة خجلة عذراء بشعر مسرح أسود، تطوق عنقها قلادة بيضاء، تندفع الدموع من عينيها، فبقيت ساعات أتابع تبدل حركة ألوانها، ورؤية شحوبها تارة، ووميضها تارة أخرى، وهي تستأذني أن اكتشف سرها، وكلما تغير لونها، تغير جمالها بصمت إلى شكل، وجوهر آخر، فصارت ألوانها أشبه بإخطبوط يلفني بأذرعه، ويهيمن علي، إنها تتحد معي اتحادا لا انفصام منه، وانفتح أمامي عالم جديد، صار يترك أثره على كفاحي في المسيرة الطويلة، فعندما أعيش معاناتي، و أنا أنزل جثمان شهيد إلى لحده، وأطعمه بالتراب، والحجار، فيصير قبرا خالدا، أهرع إلى أي نبع قربي أو حقل ورود، فأقتطف زهورا، وورودا، وأزين القبر بها، و أنا أمسح دموع الألم والحزن، هذا ما كنت أستطيع أن أفعله، أن أمسح الدموع من عيني، وخدي، هذا هو الفرق بيني و بين تلك الزهور النائمة في النسيم، في الظلال، و المتفتحة، والمتغيرة الألوان بتأثير شدة أو ضعف الضوء عليها، لم أعرف اسمها، ولم أهتد إلى شئ عنها سوى أنني أعرف موقعها في أحد القطوع الجبلية في منطقة (زيبار) قرب (سهل نهلة).