تأسس في نيسان سنة 1981 في قرية ملكان مقر لنا متقدم بالداخل قريبا الى ناحية خَلِفان وبعيدا عن الشريط الحدودي المُهجّر والمدمر، وكانت مناطق نشاطات سرية ملكان السياسية والعسكرية في البداية خاصة بسهل كوي سنجق او (دشت كوي باللغة الكردية) وقد تشكلت ثلاثة مفارز تتناوب العمل والتجوال واحدة كل شهر في تلك المنطقة حتى لا يكون هناك ضغط كبير على اهالي تلك القرى في اطعامنا.

بكر جولا امر السرية، شاب في اواخر الثلاثينات من العمر كان رجلاً متوسط القامة وسيمًا بوجه بيضوي وصوت ناعم، وكان يرتدي منديلًا أزرقًا مربوطًا حول رقبته دائما، وكان لطيفًا وودودًا، ومتمرساً في حرب العصابات.

انتقل للعيش مع زوجته وثلاثة أطفاله الى مقرنا، وقد ماتت والدته قبل سنة، والان مطارد بسبب نضاله ضد البعثيين وانتمائه الى قوات بيشمركة الحزب الشيوعي، هو وزوجته من قرية مهجَّرة اسمها دار بسر تم تدميرها قبل ثلاثة سنوات مع سبع قرى اخرى، وجميعها كانت مغلقة للحزب الشيوعي، وهرب اهلها للعيش والعمل في راوندوز واربيل او في مجمعات بناها جيش البعثيون لإجبارهم على العيش بها ومنعهم من العودة الى ديارهم.

قادنا في مفرزة قتالية مكونة من خمسة عشر رفيقاً من قوميات مختلفة الى دشت كوي سنجق شمال نهر الزاب الاسفل وحول المناطق المحيطة بقريته– دار بسر – التي انعقد فيها سنة 1967 كونفرنس الحزب الشهير، وقد تجولنا في اغلب تلك المناطق والقرى، وكان يساعده مام بايز ومام نعمان وهما اكبر سناً منه ومن نفس المنطقة، ويعرفان خفايا الدشت شبراً شبراً.

وفي احد الايام ذهبنا الى قريته حتى نرى بقايا المنزل الذي عقد به الكونفرنس والذي كان هو احد المكلفين بحراسته، وايضا لنرى الخراب الذي حل بالقرية، وكنا على ما أتذكر خمسة او ستة رفاق من بينهم الشهيد أبو سلمى (احمد البربن) والشهيد أبو شهدي ( عطية زايد بدن البهادلي) بينما فضل الاخرين الانتظار خارج القرية، فسرنا عبر المنازل المهدمة الى ان وصلنا وشاهدنا البيت من مسافة حوالي عشرين متراً وكان يحتوي على خط كهربائي مقطوع مترهل يبدو كما لو أنه يمكن استخدامه لتعليق الغسيل، ولكن المكان جميل رغم ذلك الخراب, وهناك بقايا اشجار تفاح وعنب قليلة وحقل نباتات صغير حيث نمت بعض الأزهار بين بقايا جذور البصل اليابسة.

كنا نريد أن نرى مدخل المنزل، لكن هذا يعني المرور بين الأنقاض الخطيرة لهذه القرية الهالكة والمتهالكة وحتى في ذلك الوقت ربما لن نجد أي شيء، ونحن في منطقة مظلمة واسعة من الطين والحجارة وبرك مائية صغيرة تنبع من الأرض، وتتجمع الكتل الصخرية للمنازل المهدمة في طريقنا بأعداد كبيرة جدًا، وفي بركة الطين هذه حيث نحن الان، وقعت عملية قتل بشعة لاثنين من الفلاحين العزل من السلاح، رفضوا التهجير وترك القرية، فتمت محاصرتهم ودهسهم بالمدرعات وغرقوا فيها وتركوا موتى ليومين.

وعبرنا المكان وكان احدنا يستخدم عصا للمشي مثل رجل أعمى، ويختبر الأرض أمامنا في حالة وجود أي الغام، وقررنا تحريك أحد الألواح المرمرية التي صادفتنا على الأرض وإعادتها مرة أخرى لاحقًا، ولكن عندما رفعناها كانت هناك حفرة عميقة تم بنائها بعناية تحتها، ربما هي سرداب او مخزن او شيء اخر، وفيها توجد مدفأة صغيرة مرمية في أحد الأركان وبها أغصان جافة وبقايا متفحمة لقطعة خشبية.

لم نكن هنا من قبل ولا نعرف كيف بإمكاننا الدخول إلى مثل هذه المنطقة غير المألوفة، فقمنا بجرف الطين الجاف وروث الحيوانات وتنظيف الأرض بواسطة حزمة من الاغصان الخضراء لتهيئة الارض وجعلها مسطحة بما يكفي للجلوس او الاستراحة وقمنا بازالة الحجارة والحصى الصغيرة وشظايا القدور الفخارية المتكسرة والمنتشرة في كل الاطراف، وأخذنا اثنين من الاعمدة الخشبية الكبيرة الى الخارج لتوفير مساحة أكبر حولنا.

وبينما كنت اتجول حول الانقاض، شاهدت ورقة تخرج من جدار وعندما ازلت قشرته قليلا سقطت كتلة طينية كبيرة، وورائها كانت مجموعة من الكراسات ومن الرسائل الحزبية ومن جرائد اتحاد الشعب القديمة مخبأة وملفوفة بعناية فائقة، بحيث انها لم تتأثر كثيراً بالرطوبة او الامطار او قنابل جيش البعثيين، واخذتها بلهفة وتصفحت احدى تلك الجرائد وكانت صادرة سنة 1959 وفي احدى صفحاتها قصيدة لسعدي يوسف واسمها الأربعاء حيث تبدأ:

دم على وجه الرخام دم وريح

وشفاه قتلى ملأ زرقتها تصيح

القبر أوسع منك داراً أيها القبر الفسيح

واحتفظت بهذه الجرائد وتلك الرسائل والكراسات وهي بالعربي والكردي، لمدة سنة ثم استعارها مني احد أعضاء اللجنة المركزية عندما انتقلت الى فصيل الفنانين في نوزنك وبدوره اعارها الى آخرين ومنهم الى غيرهم، وهكذا الى ان ضاعت مني وثائق تلك القرية البطلة.

وبعد خمسة وعشرين سنة التقيت بالشاعر الراحل سعدي يوسف في لندن ورويت له القصة فقال انه نشر قصيدته تلك لأول مرة في اتحاد الشعب وفي ذلك العدد الذي ضاع منك.

يبدو أنه كان عصراً ذهبياً عندما تم بناء تلك القرية، فاحجار البناء كبيرة وناعمة والجدران لم تتدهور ببساطة، لكنها فقدت اجزائها الهامة بواسطة كاسحات عسكرية عنيفة (شفل) وديناميت متفجر في اغلب جوانبها، مما يكشف عن مدى ثخانة وصلابة هذه الحجارة والحيطان، ولو ان ايادي جيش البعثيين القذرة لم تصلها لربما كانت ستعيش هذه البيوت مئتين سنة أخرى.

كانت هناك درجات تؤدي إلى مبانٍ أخرى، لكنها غارقة في الأشجار والنباتات البرية التي نبتت بها مما صعب علينا محاولة الوصول اليها، وهذا على العكس من رغبتنا لأننا لم نكن نرغب ان نفوت فرصة رؤية مثل هذه الهياكل وبقايا البيوت التاريخية، وساد شعور بيننا بالأسف وبالتعاطف مع هذه المنازل المنكوبة واهلها الكرام.

ثم وصلنا الى بقايا شجرة توت واقفة وناديت بكر جولا لأخبره أننا وصلنا الى المنزل الذي وصفه لنا، وجاء رده يحذرنا من ان السقف المخسوفة قد لايكون آمنًا للمسير قربه، فقد يكون مُلَغماً لان الجيش قد زرع الالغام في كل دروب ومنازل القرية، واراد ان يعرف هل هناك مزروعات تنمو بالقرب من المنزل وماذا عن شجرة التوت؟

ويتأرجح صوته العالي العاطفي بالهواء، وشعرت فجأة كما لو أنني دخيل، وبالاعتزاز ايضاً ان أدخل مكانًا أقوى بكثير من جيش البعثيين الفاشي ومما يمكن أن يكون مدمراً ومهجوراً.

ملاحظة اخيرة:

علمت سنة 2018 فقط، ان ابنه البكر هاوكار والذي عندي معه صورة والى جانب الشهيد ابو سلمى (احمد البربن) عندما كان عمره سبعة سنوات، قد اعتقل وعذب في احد المعتقلات في بغداد واعدم سنة 1987 وعمره خمسة عشر سنة فقط، مع الشهداء حاجي بختيار وشقيقته بعد عمليات الانفال البربرية.

وان بكر جولا قد ترك الحزب بداية التسعينات، ثم استشهد في التفجير الانتحاري الذي نفذه المجرمون جماعة القاعدة في شباط سنة 2004 في اربيل.

سلاما الى شهدائنا الابرار

ساطع هاشم / ابو غصون