كانت الحياة على هذه البقعة من الأرض باهتة كصرخة طفل أصم، تفوح منها رائحة الفناء. حياة ذابلة كأوراق الخريف على أرصفة الصبر، ولولا وقع خطانا وصرير أحذيتنا ولهاثنا ودقات قلوبنا لأعلنت الحياة عن نهايتها. انها رحلة موت مؤجل.

    قبل ان تنشف الدماء التي سالت في حرب عبثية راح ضحيتها أكثر من مليون انسان، وقبل ان تتنفس الثكالى الصعداء، قام الطاغية بزج جيشه في حرب داخلية طاحنة ضد أبناء شعبه تحت اسم الأنفال، هذا الاسم مات بسببه آلاف الابرياء وأُحرقت آلاف البيوت وتهدمت قرى بكاملها.

    كنا نقطع السهول والأراضي الزراعية الشاسعة وعيوننا تلتقط صوراً مؤلمة عن النباتات التي لوثتها صولة الأنفال واخلتها من مزارعيها. نادرا ما كنّا نلتقي بكائن حي على طول المسافة، فلم نرَ إلا بعض الابقار والدواجن التائهة، وحتى الصمت تَفَتَتَ من دوي العنف وقساوة الحرب التي مزقت الأسر وشردتها في ذرى الجبال البعيدة طلبا للنجاة من الموت الذي اختلطت رائحته بالهواء واصبح استنشاقه إيذانا بانتهاء دورة الحياة.

    وقعت عينايّ على الفوضى المنتشرة في الأرجاء حال دخولنا فناء احد البيوت، أرضه الطينية تحمل آثار احذية مازالت واضحة، ربما تعود الى افراد من الاعداء ساعين وراء الأبرياء من الفلاحين. كانت على السُفرة المفروشة على الأرض، صحون معدنية فيها بقايا طعام افسده الذعر. في كل زاوية من زوايا الغرفة الفاقدة للضوء، تجد آثار خوف وصراخ استغاثة. انتعش العنكبوت في غياب أهل المنزل ونسج لنفسه كمائن عديدة حتى شعر انه المالك لهذا الدهليز المتروك، معلنا بناء مستعمرة له فهيمن على صمت الغرفة.

   تابعنا مسيرتنا الشاقة ومعدنا خاوية والجوع يصرخ في أحشائنا. كنا نقطع مسافات طويلة عبر  طرق جبلية وعرة ووديان عميقة وسهول واسعة. لم نصادف اية قرية حتى وصلنا الى هضبة تطل على قرية مهجورة مازالت تحتوي على ثلاثة بيوت غير مهدمة ومخفية عن الانظار نوعا ما، ولكن ليس عن الجحوش الذين كانوا على علم بتضاريس المنطقة. كان الفضاء المرتعد كما لو انه يوحي لنا عجزه التام عن حمايتنا والجميع في حالة استعداد قصوى لمواجهة اية مفاجأة.

  نزلنا إليها بحذر وحيطة. الهدوء حضوره كئيب. الاشجار والحيطان ظهرت لها فجأة آذان وحدس. والبيوت خالية من البشر. فمسألة سد الرمق من المهمات الأساسية في ديمومة البقاء والقدرة على التركيز والسير الطويل. فنحن نحتاج الى خزن طاقة كما الجمل وهو يقطع المسافات في صحراء قاحلة وتحت شمس لاهبة.

خرج اغلب الانصار من القرية مبكرين وانتشروا على القمم، بينما بقينا نحن الخمسة في داخل القرية. قمت بتحضير بعض الطعام من المواد المتروكة هناك. وجدت كيس حليب نيدو ولحم معلب عليه صورة بقرة، وضعته في الحال في حقيبتي. عثرت على كيس طحين كان على رف خشبي وملطخا بالتراب والدهن الذي تطاير من ادوات الطبخ التي كانت كافية لطبخ الرز. اخذت قدر عميق ووضعت الطحين فيه واضفت الماء والملح وشرعت بتحضير العجين. وبعد نصف ساعة قمت بصنع قطع عجين متساوية الوزن على شكل كرات، انتظرتها عشرة دقائق، اي بعد ان اشعلت النار تحت الصاج حتى اصبح حاميا، بعد ذلك قمت بصناعة الخبز، وما ان انتهينا من ذلك، حتى صاح النصير نامق: هيا بنا: ((هناك من ينادي ويطلب إلتحاقنا بالمفرزة))، فجمعنا الخبز وخرجنا. وبينما كنا نقترب من التلة، هتف بنا من بعيد احد الانصار: ((اسرعوا الجحوش وصلوا وهم على مقربة من القرية)).

    كان علينا الخروج من المنحدر والصعود الى التلة التي كانت تبعد عن القرية بحوالي 50 مترا، وما ان خرجنا من القرية حتى بدأت المنحدرات بالزوال واصبحنا مكشوفين امام العدو. قطعنا المسافة القصيرة والتقينا بالنصير الذي كان واقفا على التل ويقول:  اسرعوا، وفي هذه الاثناء واذا بأصوات أخرى تتناهى إلينا من بعيد من الجهة المقابلة للتل. كانوا ينادون علينا ويطلبون منا التوجه إليهم. لم يبق أمامنا سوى الصعود إلى قمة التل والهبوط منها إلى الجهة الثانية والاختباء خلفها. هتف النصير مع إشارات بيده من فوق التل: ((اسرعوا هؤلاء هم  الجحوش)).

ركضنا بكل ما اوتينا من قوة، وما ان صعدنا السفح حتى طفقت الرصاصات تمطر علينا وأزيزها يخترق مسامعنا. شعرت بثقل الأرض تحت اقدامي وكأن مغناطيسية الأرض تحولت الى مكنسة كهربائية عملاقة تسحبنا الى عالمها المظلم. كانت تلك الثواني المعدودة خط فاصل بين الحياة والموت. التل لم يكن مرتفعا، لم يتطلب سوى سرعة اكثر.

كانت الشمس في تلك اللحظة التي يصوب فيها العدو فوهات بنادقه نحونا،  تبعث بحرارتها القاسية كالجحيم فتجعل حديد بنادقنا أدوات تعذيب إضافية.

فتح الأنصار المتمترسون بالقمة النار على الجحوش لفتح الطريق وتسهيل عملية عبورنا، وما ان وصلنا حتى تحصنّا خلف المرتفع وشرعنا بإطلاق النار عليهم، بينما راح النصير الذي يحمل قناصا، يطلق النار على أي شي يتحرك حتى أصبحنا في أمان وإلتحقنا ببقية القافلة. كانت تلك اللحظات ممزوجة بمشاعر الاثارة  والتحدي والخوف. ثم اكتشف النصير الذي كان ينادي علينا من  فوق التل ان شرواله كان مثقوبا برصاصة اطلقت باتجاهنا من قبل الجحوش. فعلّق أحد الأنصار: ((هذه هي فوائد السروال الكردي، جان هسه كل  قلاقيلك طايرة)).

    في الطريق عثر الأنصار على طفل ضال في قرية مهجورة. كان عمره خمس سنوات، وقد تُرك في غمرة الفوضى والهجوم الهمجي التتري. النصير محمود حمل الطفل على ظهره ورعاه حتى وصلنا الى الحدود التركية، وعندما إلتقينا ببعض الفارين من تلك القرية، تعرفوا على الطفل ومكان تواجد والديه، فتركناه عندهم واستمرت المفرزة باتجاه الجبال الايرانية.

   أمّا في الجانب الآخر، فالطاغية وحاشيته في جوٍ احتفالي، يجلسون الى الطاولة التي تحتوي على ما لذ وطاب، وينفثون من ثغورهم سموم الحقد والرذيلة. يتحدثون عن جرائمهم الشنيعة بحق الأبرياء وحرق قراهم ومزارعهم، وكأنهم يروون حكايات خيالية أو يسردون احداثا لِفلم كوميدي ساخر، يشعرون بالنشوة عند مشاهدة جثث الاطفال والنساء والشيوخ، يحتفلون ببطولاتهم في دفن الأحياء في قبور جماعية، والطاغية يرفع كأسه متبخترا بنصره العظيم الذي يبعث على الغبطة والانشراح، ويطلب الاستماع الى المزيد من القصص والمغامرات الشيقة، فينبري احدهم ليروي له قصة الراعي الشاب الذي تم نقله بواسطة طائرة مروحية (هليكوبتر) وعلى ارتفاع 4 كيلومترات، وكان يشعر بالأسى نحوه لأن المواشي بقيت لوحدها.

سيدي القائد فتحنا له الباب وطلبنا منه ان يطير بسرعة من هذا الارتفاع الشاهق ويذهب إلى مواشيه، فساد  الصمت لبرهة، ثم دوت ضحكة هزّت اركان القاعة فجرها الطاغية، ثم اعقبتها قهقهات مصطنعة من أفواه الحاضرين. لقد حَصدوا أرواح الناس وزرعوا مكانها سموم الموت والتهجير واشعلوا نار الرهبة في كل شارع وزقاق حتى الطيور والعصافير توقفت عن الطيران والغناء.

   بدأ الظلام يزحف إلينا رويداً رويدأً، وهذا ما كان يراودنا طويلا ونحن نشق دروب الجبال منذ الصباح.