آه  يا ذاكرتي، الملحاحة، اللزجة، اللجوجة، كيف غافلتني لتخبئي في ثنايا ثوبك العتيق مزق الزمان ؟

( شاعر نسيت أسمه)

مرة، في الريف الفرنسي، سُرق البيت الصيفي لزميلة لي في العمل، وغابت عنا قرابة الاسبوع ثم تحولت لتلقي العلاج النفسي جراء الصدمة. 

صدمة؟ ما الذي سرق منها والأوربيون عموماً لايتركون في منازلهم مالاً فكيف ببيت صيفي؟ ما الذي سُرق منك؟ سألتها فأجابت دامعة العينين: لم يُسرق سنت واحد ولا أي جهاز، ولاحتى دجاجة، سرق الأوغادُ حقيبة محملة بالرسائل والصور لأناس غابوا....

نعم ، هناك قيمة أسميها "قيمة عاطفية" لاشياء صغيرة قد لاتساوي شيئاً في السوق، لكن قيمة السوق كله لاتصل لربع قيمتها العاطفية لدى صاحبها.

بقايا صغيرة تحمل ملامح اصحابها الراحلين والبعيدين بقيت تلازمني انّى ذهبت:    

جميل (كريم عبد الامير سعيد)

أعارني مجموعة "ذهب أيلول" لفيروز، وكانت مجموعة الموسم وقتها، أقنعته أن يبقيها عندي بعقد أغراه: كلما إحتجت لسماعها تعال اليّ وستسمعها بأجواء لامثيل لها، وكأني أتنبا برحيله، غاب عني جميل ثم  سمعت بغيابه الأبدي. منذ 30 سنة والشريط ينام بين أكداس الأشرطة القديمة، أتأمله وكلما هممت بتشغيله داهمني ألم. لا أريد نقله الى الديجيتال لأني لا أريد فقدان صلة الزمان والمكان الملتصقة بالاغاني يا جميل ...

ابو الحق( كريم الكعبي):

كان يرسم تحت ظلال أشجار الصيف الوارفة في أولى أيام إفتتاح المقر الجديد صيف 1982 كوماته الثانية على أنغام رائعة لأناشيد يوهان سباستيان باخ. لم أكن قد سمعت أناشيد باخ من قبل، أغريته، انا إبليس الذي يزين للناس ما يكرهونه، بأن يعيرني الكاسيت وكالعادة نسيه عندي ومازال لدي للآن.. حين أسمعه تعود صورة ابو الحق الملتحق للتو وهو يرسم في الوادي المفتوح على مصراعيه على قذائف الفوج القريب.. رأيت كريم مرتين بعد ذلك، مرة في أربيل وأخرى في مالمو ولم تُتح لي رؤيته ثالثة فقد عاد من تركيا بتابوت!

ابو جنان (مصطفى)

استل دفتري الأثير وكتب وهو يطيل النظر اليّ : دعني أصفك:  اللامع، اللقلقي، الجميل، المبدع البديع المؤذي، السنارة المعلقة في دكان، قطرة أمل لم تولد بعد ...

رفيقة عابرة

رفيقة عابرة باتجاه  الحدود نسيت اسمها قالت لي: لدي كاسيت طويل لا اعرف كيف أستقر في حقيبتي، كله موسيقى "تنّوم " هل تريده؟ كان ملحمة موسيقى من سوناتات بيتهوفن وافتتاحية " اكمونت وكوريولان" وهما أكثر مايربطني ببتهوفن للآن...

ابو عراق (قاسم الساعدي)

اراد ابو عراق ان يودعني بطريقته الخاصة فقرر إخذ مجموعة "جون ترافولتا واوليفيا نيوتن جون"  للذكرى! توسلت به أن يتذكرني بوسيلة اخرى أقل إيلاماً فرفض. دارت الدنيا وحان يوم توديعي لقاسم، استيقظت في اعماقي عوامل الثأر البدوي فاحتجزت مجموعة "جورج زامفير" موسيقى على ضوء الشموع وهي مجموعة بإخراج كرافي ومحتوى مثيرين، دون أن يدري طبعاً. من بعيد لوحت له مودعاً بالكاسيت الذي مازال لدي للآن !

تانيا

كان لدى تانيا مجموعة غناء قبائلي جميل، كنت أسمعه يومياً ومازلت أتذكر لحناً منه، كم حاولت أن أقنعها بأن تعيرني الكاسيت، رفضت ويبدو أنها كانت محقة، ربحتْ شريطها وخسرت الانضمام الى قائمة ضحاياي.

ابو شمس

وحين غرق مقر كوماته بفعل سيول الربيع وطافت الموسيقى على سطح المياه، وجه ابو شمس نداء الاستغاثة معلناً ان من يساعده في منع الكاسيتات من الانجراف بمجرى الفيضان العاتي سيكافأ، وحصلت منه على كونشرتو البيانو رقم 1 لبيتهوفن، مازال لدي!

ابو تراث  "علي الصراف"

مر بنا ونحن في قاعدة هيركي، ولأنه صاحبي القديم من أيام الناعمة أبديت صنوف الكرم واعرته المجموعة الكاملة لعبد الوهاب البياتي طيلة فترة بقاءه في المقر، لكن جملة نصف جادة من ابو تراث اقلقتني " مجلد رائع... مارأيك ان تعيرني أياه لأخذه معي بعض الوقت الى بهدينان؟" قلت" ابو تراث ياصديقي، لقد اطلعتك على محتويات مكتبتي الخاصة التي حملتها على ظهري 12 يوما بين الجبال فلا تكن طماعاً، أربعة أيام ستكفيك لقراءة المجلد كله" قال: " طبعا تكفي.. كنت  أمزح معك" ثم أعاده في اليوم التالي. حان وقت التوجه الى بهدينان وودعنا أبو تراث والآخرين وبعد مرور دقائق سمعت من يناديني ضاحكاً ليقول لي ان صاحبي قد أخذ الديوان معه! رعب إجتاحني، فليس لي في هذا المكان سوى قمر شيراز واباريق البياتي المهشمة... وركضت وسط ضحك وهرج الاخرين باتجاه مقر "مصطفى نيروي" لالحق ابو تراث وأنتزع المجلد من حقيبة الظهر التي خف وزنها مما اشعره ببعض العزاء.. كلما قرأت من قصائد المجلد لاح لي ابو تراث بلحيته الكثة ووجهه الذي يشبه وجه علي بن ابي طالب كما كنت اتخيله في طفولتي!

ابو سامان، ابو عوف، 

مرة نزلنا قرية في " بري كاره" قال لنا أهاليها أن معلم مدرستهم عربي فقلنا أها ..هذا واحد من المخبرين أرسلنا بطلبه متوجسين ونحن نمني النفس بصيد ثمين فأذا بنا امام شاب لايمكن لمثل ملامحه المتسامحة الباسمة ان تعار لنفس شريرة. رحب بنا وقادنا بنفسه لبيته، فتح أحدى الغرف وقال: هذه لكم، انتم اولى بها، مفاجأة مابعدها مفاجأة، كانت الكتب تمتد في غرفة مكتبته من الأرض الى السقف! ما هذا ؟ مكتبة خلف الجبال؟ أدب وفلسفة وفكر وفن.. حيرة، ماالذي نأخذه منها وامامنا ينتصب جبل لينك الرهيب بكل جبروته منذراً بعاقبة ثقيلة لمن يصر على حمل الأثقال؟ أخذت أنا تماس المدن لنجيب المانع ازهار الشر لبودلير، الديناصور الاخير لفاضل العزاوي (وكان أبوسامان يسميه "الدنيا صور") وكتاب عن بيتهوفن وآخر عن ..وخامس عن....

ابو خولة ( ابراهيم)

مرة زارني في براغ وبدأ يحكي عن العمل الموسيقي " الاوديسة" التي غنته" ايرين باباس" وكيف ان مقطعاً من العمل كان يذكره بلحظات الهدوء القلق على خط الحدود اثناء التسلل وعبور الحدود التركية وانا استزيده طالباً المزيد وهو يشرح ويقلد الصوت عبثاً لمرات ومرات ثم وعدني بان يهديني نسخة من المجموعة حالما يصل دمشق. كنت أنا أثناء حديثه قد شغلت كاسيت الاوديسة خلسة وبدأت الموسيقى بالتسلل الى اذني " ابو خولة"  "الملعوب عليه حباً" ، ابقيت على الكاسيت لكي اتذكر ابو خولة...

ابو كويظم

أول مرة رأيته، كانت آخر مرة! تبادلنا ونحن نجلس على صخرة في العتمة تلاوة قصائد نحفظها من " الطائر الخشبي" لحسب الشيخ جعفر ثم سمعت أنه غادرنا الى الابد...كنت اشتاق لقراءة حسب الذي يذكرني به لكن الطائر الخشبي كان مفقوداً في زمان حصار الثمانينات .. قررت خوض مغامرة مع سفلة الحكام ببغداد، ومن اوربا  كتبت رسالة باسم شاعر بلغاري وهمي الى وزير بعثي يدّعي الثقافة: قلت له انا شاعر مستعرب واود كتابة رسالة دكتوراه عن "أدبكم"، صدق الغبي وامطرني بالرسائل ثم فتح باب العطايا: اطلب ماتريد ! قلت لا اريد سوى كتب حسب الشيخ جعفر والبياتي والسياب وطبعاً قبل كل شئ" دواوينكم" ، ارسل لي رزمتين ضخمتين هما "دواوينهم"، القيت بها الى القمامة وهرعت الى الطائر الخشبي استعيد ماقرأناه، ابو كويظم وأنا: يدي التي مددتها اليك .. يرضيك ان اردها من غير شئ؟ وجهي الذي تركته لديك يرضيك ان يجف مثل عشبة صغيرة في وقدة الظهيرة ؟  لم ار بحياتي حافظاً لشعر حسب مثل أبو كاظم!...

لابد أن أختتم بزيدان أبو خلود الذي سوف لن اغفر له عمله البربري حين استعار مجموعة نانا ماسكوري ولم يرجعها: ضاعت!! هكذا بكل بساطة..

ترى هل يتذكرني احد بشئ، أخذه مني...؟.