في لجة الماضي وذكرياته الغائمة و الموغلة في البعد، ينبثق في عقلي وقلبي بعض من وهج تلك الساعات السعيدة.
رغم الظروف الصعبة، والإمكانيات البسيطة، إلا أن ذلك لم يثنينا عن الاحتفال بكل المناسبات الوطنية والعالمية، وإيجاد أي فرصة للسمر والفرح، للترويح عن أنفسنا والتسلية لبعض الوقت،و التخلص من الضغط النفسي الذي كان يجثم علينا بسبب الظروف الصعبة التي كنا نمر بها ..
يوم المسرح العالمي كان إحدى المناسبات التي لم يفتنا الاحتفال بها في ٢٧ آذار من كل عام .
تجربتي الاولى مع المسرح الأنصاري كانت في الفوج الثالث. كنا ما نزال في بداية عام ١٩٨٦ حينما طلب مني الرفيق ابو الفوز التمثيل معه في مسرحية من تأليفه وإعداده، وافقت مباشرةً، سيما وقد سبق لي أن مثلت أثناء دراستي الجامعية في مسرحية معربة لبرشت.
بدأنا الاستعدادات لتقديم مسرحية بعنوان (تعالوا نقدم مسرحية). مسرحنا كان في الهواء الطلق، وحصلنا على الملابس من بلدة بامرني القريبة من الفوج. تم العرض الأول في يوم المسرح العالمي، ثم أعدنا تقديم العمل بعيد الحزب. وقد نال اعجاب واستحسان الرفاق وضيوف القرى القريبة من الفوج.
بعد ذلك بعام تقريبا حينما انتقلت الى قاطع بهدينان، وقبل شهرين من الاحتفال بيوم المسرح العالمي، عرض علي ( ابو عجو) المخرج عدنان اللبان أن أقوم بدور الأم في مسرحية كتبها وأعدها (لا اذكر اسمها)، التي ستقدم في احتفالية يوم المسرح العالمي 27/ آذار 1987. أحببت أن أكرر تجربة التمثيل مرة اخرى، خصوصا أن التدريبات لن تؤثر على القيام بواجبات الفصيل.
كان الرفاق قد شيدوا من خشب الأشجار في إحدى القاعات الكبيرة مسرحاً يعلو عن الأرض بمسافة نصف متر تقريباً، مع كواليس ضيقة لكنها كافية لوقوف أحدنا هناك. جهد ابو حسن (حبيب قلبي) بتصميم وتنفيذ إنارة كاملة للمسرح والتحكم بها حسب المشاهد.
اجتمعنا في اليوم الأول للتدريبات ووزعت علينا الأدوار مع النصوص، وطلب منا المخرج (أبو عجو) أن نلتزم بأوقات التدريبات، لأننا لسنا ممثلين محترفين و يتعين علينا التدريب بشكل مكثف، للظهور بشكل لائق. كان دور الأم المناط بي صغيرا، ورغم ذلك وافقت عليه، لانها فرصة للخروج من المألوف اليومي. في اليوم الثاني للتدريب، لم تحضر الرفيقة التي لها الدور الأساسي في المسرحية، تدرب من حضر، وبدأنا بحفظ ادوارنا. في اليوم الثالث لم تحضر الرفيقة صاحبة الدور الاول ايضا، هنا استشاط المخرج غضباً، وعندما سألها عن سبب تخلفها عن التدريبات إجابته: بأنها لا تريد أن تحضر يومياً!.
يومئذ قرر المخرج استبعادها من المسرحية و أنيط بي الدور، ثم انضمت إلينا الرفيقة سعاد في دور الأم. في الايام الاولى، لم تتجاوز مدة التدريبات أكثر من ساعتين، عند قرب موعد العرض، كثفت التدريبات، وبذل الجميع جهداً كبيرا ومضاعفاً. بالنسبة لي، اصبح الموضوع شيئاً في غاية الاهمية والجدية، لا مجال فيه للتهاون، دأبت كي أؤدي دوري بالشكل المطلوب، كنت انتبه لكل ملاحظة صغيرة أو كبيرة يعطيها المخرج، بغية الظهور أمام الجمهور بالشكل الذي أريده لنفسي، على الرغم من أنها كانت تجربتي الثالثة في الوقوف على خشبة المسرح، إلا أنها الاغنى والأكثر ابداعا.
عندما اكون بين الرفاق أو حتى أثناء الخدمة الرفاقية استرجع ما أتدرب عليه في ذهني، تقمصت الشخصية تماماً، دون أن يؤثر ذلك على شخصيتي الحقيقية. بعد أكثر من شهرين على التدريبات، واجهتنا مشكلة إيجاد ملابس مدنية، ارسلنا الى الفوج الثالث رسائل للحصول على ملابس مناسبة، لقربه من بلدة بامرني.
تمر الايام والوقت يجري بنا سريعاً، ونحن نكثف التدريبات ويزداد القلق في نجاح المسرحية. لم يبقَ سوى أسبوعين فقط على العرض، حينما وصلت الملابس، الفستان البنفسجي كان جميلا جداً لكنه أصغر من قياسي بقليل، لذلك قررت تخفيض وزني، امتنعت عن أكل الخبز والرز والتقليل من الاكل، كنت اقيس الفستان يوميا، وأشعر بأنه بدأ كأنه خيط على مقاسي، حتى بدأت البسه بيسر وسهولة!.
الزمن الماضي نثار من الألم والفرح، تتوالى الصور كالأمطار الغزيرة سريعة ومزدحمة، فتغرق الذاكرة. في ذلك المساء البعيد الذي لا يشبه غيره من المساءات، غصت القاعة بقسم من أعضاء اللجنة المركزية آنذاك، وجمع غفير من الرفيقات والرفاق بانتظار رفع الستارة، كان الجمهور متحفزاً ومترقباً، ساد صمت في المكان، الكل يغور بداخله، يترقب مشاهدة المسرحية.
امتلأتُ في تلك اللحظات بمشاعر كثيرة، ارتجفت للوهلة الأولى، أحسست بجفاف في فمي، إلا أني انتصرت على كل ذلك بمجرد ما نطقت الجملة الاولى وانا على المسرح، نجاحي في أداء دوري بالمستوى المطلوب وبما اطمح له، كان هو الأهم بالنسبة لي.
سالت دموعي وفاضت، معبرة عن المشهد برمزيته. أثناء تمثيل المشاهد التي تحمل الألم والقهر سيما مشهد الاغتصاب، كنت اسمع أنين ولهاث وبكاء الرفيقات، كان نحيباً موصولاً تتخلله بين فترة وأخرى، كلمات مليئة بالاستعطاف لجلاد المسرحية، كلماتهن كانت تخترق أذني، فقد تفاعلن معنا بشدة.
بعد انتهاء المسرحية صفق لنا الجمهور كثيرا.. سمعت الكثير من كلمات الإطراء من الرفيقات والرفاق لكن ما بقي في بالي بعد كل هذه السنوات هو كلمة الرفيق المخرج ابو عجو (لم اسمع واعتقد لن اسمع مثل صرختك المعبرة)!، ثم كلمة الرفيق (أبو يوسف ـ سليم اسماعيل ) وهو يناديني (اين فاتن حمامة)!.