مسرحيون عراقيون يغادرون - ولنقل يٌقصون من- خشباتهم ويرتقون صوب فضاءات الجبال والوديان والمخاوف والهواجس والروبارات .
مسرحيون عراقيون يحملون أحلامهم ومشاريعهم وذكرياتهم وتساؤلاتهم ومشاكساتهم في حقائب الظهر أو في (خٌرج) بغل عنيد ، ينتقلون في جغرافية أوطان لا يعرفونها ، يتجاوزون الحدود من دون جوازات ويتحدثون مع أدلائهم بالإشارات ، وإن كانت وجوه الأدلاء غريبة عليهم لكنهم في الإشارات (إسطوات) هكذا تعلموا من جدهم ستانسلافسكي واستاذهم قاسم محمد!!!.
وأنا فاروق صبري أفتخر بأني كنت أحد هؤلاء المسرحيين الأنصار، البيشمه ركه ، والذين أتذكر منهم الخالد كاظم الخالدي ، أبو الصوف ، صباح المندولاوي ، رياض محمد ، عواد ناصر، سلام الصكر ، وأخرين اللعنة على ذاكرتي بنسيان أسمائهم......
المسرحيون الأنصار عملوا من أجل إنجاز عروض مسرحية قصيرة في بيوت الطين حيث سكنوها أو بين أشجار الغابات أو بالقرب من نهير صغير يسمى (روبار) ، كانت إضاءاتهم خيوط الشمس وظلال الأشجار ، أو فوانيس النفط وبعض من الشموع ، أمكانيات بسيطة في مٌفردات لفضاء العرض لكن طاقات أدائية في غاية الجمال جسدت الفكرة والرؤية ، نصوص تسرد بمحبة وإتقان ، وقصائد تتحول إلى مشاهد بصرية ، ولمناسبة الحديث عن القصائد أقول أن شعر سعدي يوسف أنقذني ورفيق معي من الموت المحتم ، كنا وإياه في موقع أنصاري ننتظر رفاق يأتون من بلدان ما ، كان الموقع (أشكفتاً) أي كهف يتربع على حافة وادي عميق ، ليلاً وعلى ضوء الفانوس كنت أنا ورفيقي (أبو هدى) نتبادل قراءة قصائد سعدي يوسف ، هو يقرأ مقطعاً فيما أودي ابيات من (الأخضر بن يوسف) غناءً ، ونحن نعلن فرحنا الطفولي عبر إيقاعات القصيدة بدأت إيقاعات مطرية تتصاعد ، تتصاعد ، تتصاعد وتنهمر الأمطار مٌصاحبة صخب ونيران الرعود ، لكن ضوء نطقنا الشعري لم ينطفئ :
هل تبصرين الغصون الصغيرة
هل تلمسين بها الخضرة البكر
هل تسمعين بها النبض مندفعاً
قربي ذلك الغصن منك
إجعليه لصيق ذراعك
كوني نٌسغَه وليكن في ذراعيك
منه إرتسام الوريقات
وشيئاً فشيئاً بدأت أصوات الإرتطامات لتحول هدوء ليلنا وعذوبة القصيدة إلى وادِ خوف وهواجس وتوقعات ، رفيقي أبو هدى فجأة نهض ونطق : لنغادر الكهف (الإشكفت) ونحمل معنا أسلحتنا ومطّارات المياه ، فيما أنا أخذت مجموعة سعدي وتوجهنا صوب القمة ، صعود من مطر ورعد وصخور صغيرة تنفلت من بين أرجلنا لتنحدر إلى حيث الوادي العميق ، وبعد وصولنا القمة حيث شجرة صغيرة بأغصانها المتشابكة وأوراقها الكثيفة ، جلسنا تحتها ، لكن مظلتنا الشجرية كانت مثقوبة من خلالها تنسل قطرات المطر وهزات ضوء الرعد ، إنتبهت وقلت لصاحبي : أخ كيف نكمل قراءة القصائد في الظلام ، فاجأني رفيقي ابي هدى قائلاً : لا تيأس فللقصيدة قداحة تضيئها ، ضحكنا بكركرات صداها كان يطرد وحشة الوادي والرعود ، وهو يشعل قداحته أعلن صاحبي بدء العرض ، القصيدة ، الغناء :
ياسالم المرزوق خذني في السفين ، في السفينة
خذ مقلتي ثمناً سأفعل ما تشاء
إلا حكايات النساء
يا سالم المرزوق زوجتي الحزينة
في بيت والدها سجينة
في قرية من سيحان جرداء النخيل
وإنتصرت طاقة القصيدة ، بها وأنا أغنيها تحت تلك الشجرة شميت رائحة خشب المسرح ، كنت أغني تمثيلاً فيما المخرج أبي هدى يضئ الفضاء بقداحته ، كانت أشجار الوادي السحيق جمهوري ، ترقص مع الريح طرباً ووجعاً مع غناء سالم المرزوق وهو يٌسيّرٌ مشحوفه ويٌحرِّك فالته بحثاً عن سمك يختبئ بين القصب وإخضرار مياه الأهوار، ووووبزخ النهار وتوقف الرعد والأمطار ، ونزلنا سريعاً صوب بيتنا ، كهفنا ، وإذا به فارغ من حاجياتنا ، كيس الطحين ، علب وكتلي الشاي ، قطع حطب التدفئة وووو ضحكنا ورجّ وادينا بأصداء الضحك لأن سيول المياه لم تستطع إصطيادنا.
وبعد قليل حضر عدد من البيشمه ركة الأكراد ببغالهم المحملة بالمواد الغذائية وسمعنا صدى أحدهم ينادي : ها فنان قجخجي أنت هنا ، هكذا سموني بعدما عرفوا أنني ممثل مسرحي بعد أن عملت معهم لفترات طويلة في قطع الطرقات الصعبة والخطيرة بين الجبال والوديان ، نسير ليلاً وننام نهاراً ، نأكل ما يتيسر ونحن نشد الأمتعة وحاجيات المقرات على البغال ، وقد أصبحت ماهراً في تهيئتها ولذلك كانوا هؤلاء البيشمه ركة ينادونني بالفنان القجخجي !!!.