أضع كفي على وجهي، وأغمض عينيّ محاولة حماية رأسي من طوفان ذكريات مؤلمة، تأتي كل عام من اعماق الماضي. إنّ نسيان غروب يوم الخامس من حزيران عام 1987 ليس بالأمر  اليسير أو الهين.

ما جرى يومها ما زال راسخاً في ذهني وشاخصاً أمامي، ما زالت رائحة المكان تذكرني بأوجاع الرفاق وآلامهم، مشاهد كثيرة، ومواقف حزينة ما لبثت عالقة في روحي، كأنما لم تمضِ ِ عليها كل هذه السنوات.

أيام شاقة وعصيبة تلك التي سبقت ذلك التاريخ، لم تكن نار الموقد أو التنور تنطفئ.. تحضير  وجبات الطعام والشاي لا تكاد تنقطع.

على مدى أيام عديدة، وفد إلى قاطع بهدينان العديد مــن المفارز، فأكتظ المقر بالرفاق من كل حدب وصوب، لم نكن ننتهي من استقبال مفرزة قاطع أربيل، حتى نقوم بأستقبال رفاق السليمانية أو الفوج الأول أو الثالث. وصلت عصر ذلك اليوم مفرزة لولان التي ضمت عدداً من قادة الحزب، ورفاقاً عادوا لتوهم من رحلة العلاج.

في الساحة الكبيرة، التي تقع بين فصيل الإدارة ونهر الزاب، كانت لعبة كرة القدم قد بلغت نصف شوطها الثاني، بالرغم من الإرهاق والتعب من المهمات والواجبات اليومية، التي يقومون بها، إلا أن ذلك لم يثنيهم عن مزاولة لعبتهم المفضلة. بعض الرفاق انهمك في تحضير وجبة العشاء التي أزف موعدها. آخرون ما زالوا يقفون أمام التنور لإعداد الخبز.

تحت إحدى الأشجار تفترش مجموعة صغيرة  الارض وتكتفي بأحاديثها.. هناك مَن غلبه الوسن وكحل جفنيه فأخذته غيبوبة الإجهاد. قسم من الرفاق جلسوا على شكل مجموعات صغيرة، في حضن الوادي الرحب، الذي امتد بين فصيلي الإدارة والضيافة، يتبادلون الأحاديث والضحكات... في أحد الفصائل وزعت صحون العشاء، وما أن تحلق كل ثلاثة حول صحن واحد، حتى سمع أزيز طائرات النظام الفاشي، التي حلقت في دورة كاملة في سماء المقر، وبسرعة، وفي وقت لم يكن أحد يتوقعه، عادت من جديد غمغمة هدير لا يشبه ما عهدناه.. دوى القصف الهادر الذي صم آذاننا، قذائف وصواريخ محملة بغاز قاتل! لا يعرفه أحد منا، احتمى قسم من الرفاق بصخرة أو نتوء طبيعي، ومن لم يجد ما يحميه انبطح صاماً إذنيه.

سقطت قذيفة قريبة جدا من مكان وجود أبي فؤاد وأبي رزگار، زحف الصغيران مشمش ونداء برباطة جأش عجيبة إلى أحد الملاجئ القريبة  منهما، احتضنت أم علي صغيرها سمسم وحمته بجسدها. بفعل سقوط الصواريخ، اهتزت غرفة الطبابة، فانهمرت  الأتربة من كل أركانها من دون أن يستطيع أبو حيدر الجريح الحركة وترك فراشه.

سيڤان الصغير كان يفترش الأرض ولم تزل آثار النوم في عينيه، عندما حملته أمه وركضت به إلى اقرب مخبأ!، تخلت سمر عن غسل ملابسها، عند سماعها دوى القنابل التي سقطت في كل مكان. بلمح البصر أصبح  منذر بجانب سلاح "14 ونص" و ظل يحاول المقاومة حتى ولت الطائرات الأدبار...

تضاربت الآراء حول نوعية القذائف، هل هي كيميائية أم ماذا؟ امتلأ المكان برائحة نفاذة وقوية، وغبار اصفر كان بالإمكان لمسه بأصابع اليد!.

صوت ملازم ماجد (إخاء  المهداوي)، وهو يحث الرفاق على مغادرة المكان، والتوجه مباشرة إلى النهر، أو على الأقل وضع قطعة مبللة بالماء على الأنف والفم، لكن لم يستجيب له احد!. وصلت المناقشات بين قسم من الرفاق حد التشنج، سؤال واحد  فقط تردد في إرجاء المقر، هل هذه الصواريخ سلاح كيميائي أم لا؟.

بعد القصف مباشرة، اتجهت مجموعة من الرفاق إلى المقبرة، لجلب الأخشاب المحترقة نتيجة القصف، حملوها من دون أن يعرفوا أنها ملوثة بالغاز السام، مما اصابهم بالغثيان وصعوبة التنفس. سجّي الرفيقان أبو فؤاد وأبو رزكار في إحدى الغرف القريبة، حيث كانت أصابتهما بالغة، استشهد بعد ساعات ابو فؤاد، ونقل ابو رزگار إلى  فصيل الدوشكا، ليستشهد بعد اسبوع!. أخذت حالات الغثيان والتقيؤ تظهر على معظم الرفاق، ثم العمى المؤقت الذي ألمّ بأكثرية الموجودين. عندئذ قررت القيادة ترك الفصائل التي في الوادي والصعود إلى فصيلي الإسناد والدوشكا، كونهما يقعان في مكان عالٍ!. في ساعات الليل الأولى، وبعد منتصفه بقليل، غطت ساحة الإسناد الواسعة بأعداد غفيرة من الرفاق، أضرمت النار في أماكن متفرقة منها، وصوت أنين بعضهم يمزق شغاف القلب.

أينما تنظر تراهم يمسكون أحشائهم بأيديهم، كأنهم يخافون أن يلفظوها في إحدى نوبات التقيؤ الشديدة التي تنتابهم.

في اليوم التالي للضربة صعد العديد من الرفاق إلى فصيل الدوشكا، رحلة صعبة للغاية، سيما أن معظمهم كان يعاني من الغثيان وحالة التقيؤ المستمرة، ثم بدأت أعراض جديدة أخرى في الظهور، حروق والتهابات في الجلد ذات فقاعات صفراء وخاصة في المناطق الحساسة من الجسم .. كما أخذ الكثيرون يعانون من تشنج في الجفون واستحالة فتحها، مع وخز دائم فيها، مما سبب العمى المؤقت لعشرات الرفاق. بدت الفصائل مقفرة مهجورة، شديدة العتمة حتى في الليالي المقمرة، انقطعت الحركة وتوقف الصخب، انطفأت البهجة، خيم العدم على المكان الذي كان يعج بالحياة.

شعور رهيب ببطء الزمن وثقله كأنه رصاص مذاب يتقطر.

بُذلت  جهود مضنية من أجل الخروج من هذه المحنة، لم يتجاوز عددنا التسعة، نحن من قمنا على خدمة  هذه الأعداد من الرفاق ، كنا نقوم بغسل العيون بمحلول الشاي أو بالماء البارد ولمرات عديدة خلال النهار، العناية الطبية  البسيطة بهم، مساعدتهم  في الذهاب إلى الحمام، وإطعامهم أحياناً وغسل ملابسهم. خلال اسابيع طويلة من العمل، نفذ الإنهاك إلى عظامنا وأثر في ارواحنا، إلا أن ذلك لم يحطم عزيمتنا ولم يثنِ ارادتنا.