عام 1967 يوم انحفر في ذاكرة أجيال عديدة وقد صار أسمه مقروناً بالشهر الذي جاء فيه، ليعطي صورة مجسمة لنكسة عسكرية وسياسية كبرى في تاريخ المنطقة وهو الخامس من حزيران 1967.

وبعد تلك النكسة المخزية للأنظمة العروبية التي كانت تدعي ذلك آنذاك، يخطط قادة البعث بقيادة مجرمهم الأول لارتكاب مجزرة انتقاماً من الشعب العراقي وليس العدو الإسرائيلي كما ينافح ويتداعى عن طريق نباح وعواء مذيعيه.

في الأيام التي سبقت ذلك التاريخ راحت وفود قيادية من جميع القواطع التابعة للحركة الأنصارية تتوافد إلى مقر قاطع بهدينان، مما جعل عملاء السلطة الذين يراقبون المنطقة يكتبون تقاريرهم المتعاقبة إلى مسؤوليهم عن ذلك التحرك غير الطبيعي والمكثف.

وكان أن علمت السلطة بأن الحزب يتهيأ لعقد مؤتمره الخامس ولكن لا علم لها بموعد ومكان ذلك المؤتمر، لأنه في الحقيقة لم يحدد بعد. وحدث كهذا يجعل السلطة تستنفر كل احتاطيها من العملاء والمندسين لمراقبة ما يجري من أجل أن تهيئ عملية عسكرية له.

في الواقع كان ذلك التجمع هاماً، لأنه اجتماع للمجلس العسكري لقوات الأنصار من أجل الانتقال إلى حالة نوعية في الصراع العسكري مع السلطة بتنفيذ عمليات كبرى وكذلك عمليات صغرى متلاحقة، لا تمنح السلطة فرصة التقاط النفس أو التهيئة للقيام بعمليات واسعة.

لم تبدأ السلطة عمليتها العسكرية الجوية في الأيام الأولى للتجمع بل اختارت يوماً مذلاً لها لتزيد من انحطاطها السياسي والأخلاقي خسة. تنتقم من حزب مناضل عريق لا غبار على وطنيته بدلاً من أن تضرب البلد الذي أذلها وباقي البلدان المتبجحة بالانتصارات الوهمية.

عصر ذلك اليوم ساكن الريح كنت أتحدث مع الرفيق جاسم أبو شكرية الذي كانت معرفتي الأولى به في بلغاريا. كان أبو شكرية قد جاء من السرية الخامسة للعناية بالرفيق أبو حيدر الذي يتعالج من جرح اطلاقة أصابت ساقه في إحدى العمليات العسكرية. عند غروب الشمس اقترحت عليه بأن نتمشى صوب النهر ونجمع في طريقنا بعض الحطب الجاف للطبخ، إذ كان يعد طعاما خاصاً للرفيق أبو حيدر الراقد في المستشفى الملاصقة لغرفة الإعلام.

قبل الوصول إلى النهر سمعت دوي طائرة مقاتلة، وفي العادة لا يتحرك الطيران العراقي في تلك الساعة من الغروب، فتوجست منها رغم أنها كانت على ارتفاع ليس بالقليل. وبعد بضع دقائق سمعت صوت أزيز قريب فالتفت لأشاهد طائرتين من جهة مقر الدوشكا، متوجهتين صوبنا وكأنهما تزمعان الارتطام بنا. كادت تلك المفاجأة أن تشل حركتنا ولكني وبسرعة خرجت من حالة الذهول وجررت الرفيق أبو شكرية من يده وركضنا لنحتمي بصخرة عالية قريبة. وحين نظرت إلى الطائرتين من جانب الصخرة شاهدت صاروخين متجهين صوبنا والطائرتان ارتفعتا من فوقنا لتعبران الجبل المواجه. سقط الصاروخان بمسافة قريبة عند منخفض خلفنا ولكنه لم يحدث صوت الانفجار المدوي الذي تصنعه المتفجرات فتوقعتهما سقطا في نهر الزاب. وقبل أن يكون بمقدوري تبيان أي شيء كانت طائراتان أخريان تسقطان صواريخهما في مناطق مقراتنا. لم يكن في المنطقة التي نحن فيها سوى تلك الصخرة فكانت رؤيتنا للطائرات التي تنقض على الوادي لتسقط صواريخها على مواقعنا مكشوفة لنا. وفي زمن قصير أنجز أشاوس البعث مهمتهم القذرة جذلين بالنصر، وأي عار كان ذلك النصر الذي لا زالوا ينكرون قيامهم به وهم يقسمون على أن الطائرات الإيرانية هي من قامت بتلك الفعلة بمن فيهم سيدهم عند محاكمته، ولكن أحد أنصارنا سمع في الـ FM عبر المذياع الطيارين يتحدثون ضاحكين سعداء بجريمتهم عن تلك الضربة الماحقة. (حين تحلق الطائرات فوق مناطقنا، نسرع إلى فتح موجة الـ FM لنلتقط مكالمات الطيارين مع بعضهم).

بعد دقائق قليلة نهضنا لنشاهد الدخان يرتفع من أماكن عدة من المقر ومن المرتفع الذي فوقه. لا يمكن وصف المشاعر التي سحقتنا بعد مضي تلك السنين ولكل واحد أن يتصور الحالة ويقدر حجم الهم والحزن الذي يضغط على القلب وهو يشاهد الواقعة من بعيد ويأخذه تصور أسود بأن جميع من كان هناك سقط بين قتيل وجريح! الآن وبعد أن مر على الذكرى الأليمة هذا القدر من السنين يعتصرني هم أشعر به وكأنه ذات الهم الذي أصابني ذلك اليوم.

لم يكن لون الدخان واحداً. لقد كنت في مكان بعيد وأميز بوضوح تلك الألوان. كانت بعض غيوم الدخان تميل إلى الأزرق والأخرى تميل إلى الأصفر القاتم.

قبل التوجه صوب المقر استطلعنا مكان الصاروخين اللذان سقطا خلفنا، فوجدنا في الطريق إليهما قطع كبيرة من حديد الصاروخين وهي ليست كما تلك التي تتشظى من القذائف التي ترشقنا به طائرات أو مدفعية السلطة. فوجئت حين شاهدت مكان وقوع أقرب الصواريخ الذي لم يصنع سوى حفرة صغيرة تاركاً حولها مسحوقاً أبيضاً، كما لم يتسبب بحريق في الأشجار أو النباتات القريبة منه.

ركضنا نحو المقر لنجد بعد سؤالنا في موقع الإدارة أن لا توجد خسائر ولكن الرفيق أبو فؤاد كان قريباً من أحد الانفجارات وامتلأ صدره بالدخان. لم يذكر أي من الموجودين بأن السلاح الذي ضربنا به هو كيميائي. كانت هناك رائحتان أيضاَ، رائحة التفاح ورائحة تقترب من الثوم أو الدي دي تي DDT الذي كانت تستخدمه السلطات المتعاقبة بعد تحويله إلى غاز لمكافحة الذباب والبعوض دون حساب لأضراره على صحة الإنسان الذي يستنشقه طيلة فترة بقائه عالقاً في الفضاء.

أسرعنا نحو الطبابة لتفقد الرفيق أبو حيدر وكذلك الرفيق أبو فؤاد. صدمنا أمام مشهد مريع. كان وجه ورقبة ويدي أبو فؤاد بلون أسود مزرق وهو لا يستطيع الحديث ويكابد في التنفس ويسعل بين لحظة وأخرى وكأنه يحاول التخلص من الدخان الذي اقتحم رئتيه. كان ممداً وبجانبه الدكتورة أم هندرين وهي لا تدري كيف تسعفه. وبعد فترة وجيزة جيء بالرفيقين عباس رش وخابور جريحين في ساقيهما .كانت ساق عباس أكثر تضرراً. فقد ضربت شظية كبيرة المنطقة ما بين الركبة والقدم لتنزع الجلد وتهشم إحدى العظمتين. بدأت أساعد الدكتورة في تنظيف جرح عباس والتقاط العظام المتكسرة من الساق على النخاع الدامي. تلك كانت تعليمات أم هندرين وذهبت لتداوي الرفيق خابور. لقد هزتني في حياتي مواقف بطولية وشجاعة كثيرة ولكن حالة عباس رش واحدة متميزة منها. لقد كان رابط الجأش، كما يقال، إلى درجة أنه كان هو من يهوّن عليّ ولست أنا كما ينبغي.

كثيراً ما يتألم بعض الناس أزيد بكثير من المصاب بجرح أو مرض، وتلك ليست بالحالة الفريدة. فهل تسلبهم الرؤية جزء من صلابتهم في مواجة المحن؟! وهل الصورة أبلغ من الحدث؟ يخوض الإنسان مغامرات خطرة يتحدى بها الموت ولكنه حين يواجه حالة إنسانية بالغة الصعوبة يصاب بحالة من الضعف وكأنه على حافة الانهيار!

بعد أن عاينت أم هندرين الموضع ومسحته بمنظف مطهر غطت الفجوة بالشاش ولفت الساق. ونسيت في غمرة متابعتي الرفيقين أبو فؤاد وعباس رش، الرفيق أبو رزﮔﺎر ووضعه الصحي بعد ما سمعنا أنه أسرع لنجدة الرفيق أبو فؤاد إذ كان قريباً منه واستنشق دخاناً كثيراً وليس غازاً كما كان البعض يسميه في بداية الأمر، فأتحدث مع الثاني ولا أستطيع البقاء إلا بضع ثواني وأنا أشاهد معاناة الأول وصوت رئتيه يشخر بصفير حاد حين يشهق بقوة للتنفس. لا أدري هل كان فاقداً للوعي أم كان يعاني من كل ذلك الألم الذي لا طاقة لأي كائن عليه؟!

بعد انتهاء الغارة بنصف ساعة أو أكثر بقليل احتدم النقاش لتحديد نوع الدخان هل هو غاز كيميائي سام أم دخان للتمويه وإثارة الرعب في نفوس المقاتلين لتحطيم معنوياتهم!

وفي غمرة اليقين والشك وصل إلينا طبيب مقر الاتحاد الوطني مع مجموعة من البيشمه رﮔﻪ وحال وصوله إلى المكان القريب من المستشفى وقبل أن يساعد في معاينة المصابين أكد بيقين أن ذلك الغاز هو كيميائي وأنه يعرفه جيداً إذ كان في باليسان حين ضربتهم السلطة بالسلاح الكيماوي وأشار علينا بالصعود إلى المرتفعات البعيدة عن الغاز وإشعال نيران كبيرة لطرد الغاز. كان هناك من ضمن الواقفين الرفيق أبو جميل والرفيق ملازم رائد أمر السرية الجديد، فآمر السرية القديم قد تسمم بالثاليوم وذهب للعلاج في إيران.

تصدى الرفيق آمر السرية لذلك التنبيه وأعتبره تطيّراً، وأن الغاز هو للتخويف وإشاعة الهلع في نفوس الأنصار. ولم تجد محاولات عدد آخر من الأنصار في إقناع آمر السرية باتخاذ الإجراءات الوقائية. وكان عليه أن يتخذها حتى وإن كان كما يدعي بأنها مجرد غازات فيها رائحة غير طبيعية، تحوطاً أو أن يعتبرها مناورة للتدريب على مثل ذلك الخطر. ولكنه لم يفعل وترك الأمر مفتوحاً للتصرف وقد صعد عدد من الأنصار إلى موقع الاسناد وآخرين إلى موقع الدوشكا الذي لم يسقط في محيطه أي صاروخ.

تحرك طبيب أوك بعدما يئس من إقناع آمر السرية برأيه لمعاينة الرفيق أبو فؤاد ومن ثم لمعاينة إصابة الرفيق عباس رش. وكانت خبرته الجراحية جيدة إذ كان قبل التحاقه بقوات أوك في الجيش العراقي وتراكمت لديه خبرة كبيرة لمعالجة الجرحى في الجبهات فترة الحرب مع إيران. فأعاد تضميد الجرح بعدما أشاد بما قامت به الدكتورة أم هندرين.

بعد بضع ساعات من المعاناة، التي ليس بمقدور أي من قساة القلوب تحملها وهو ينظر إلى الرفيق أبو فؤاد، أعلنت الرفيقة أم هندرين في الساعة العاشرة والنصف تقريباً عن توقف ذلك القلب الشجاع.

في اليوم الثالث من المحنة توقف قلب ذلك الفتى الشجاع الذي يسحرك بصوته الهادي الذي يشبه الهمس ويجعلك تشعر بالفخر حين يكون في مقدمة المتقدمين لاقتحام الربايا أو حين يدخل إلى بؤر الخطر ليعيد التنظيم الحزبي في زاخو وما يجاورها.