وصلنا الى مقر القاطع الذي یقع في وادي (كوماته) في الساعة العاشرة صباحا من یوم 22 ایلول عام 1980، اي قبل عدة ایام من الاعلان الرسمي لبدء الحرب العراقیة الایرانیة، وقد استقبلنا بحفاوة لا توصف من قبل الانصار المتواجدین فيه.
بعد مراسم الاسقبال، خلدنا الى النوم، ومن شدة الاعیاء لم یعرف احدنا عن ماذا تحدث وكیف كان سلوكه وتصرفه. بعد ساعات قلیلة، تم ایقاظنا لتناول وجبة الغداء التي لا أتذكر مادتھا وكیف كانت. في تلك الاثناء، إلتقیت بالطیب الذكر ابو یوسف (سلیم اسماعیل) عضو ل. م. للحزب آنذاك، والمسؤول السیاسي في قاطع بھدنان، فیما كان طیب الذكر ابو جمیل (توما توماس) عضو ل. م.، المسؤول العسكري.
لقد كانت لي مع ابي یوسف ذكریات جمیلة، منذ ان كنا في البصرة عندما كان سكرتیرا للمنطقة الجنوبیة. كان لقائي الاول به في عام 1971 على ضفاف شط العرب في منطقة (الشرش)، حینما حضر مشرفا لاجتماع لجنة الحزب في قضاء القرنة. تذكرنا كیف كنا نشتري بعض قطع السلاح من المھربین، حیث تركت احداھا (سیمینوف) في البیت عند مغادرتي للاتحاد السوفییتي، وأخرى رشاشا مصریا قديما (بور سعید)، ولم اتمكن من معرفة مصیرھما، وللامانة انھما كانا ملكا للحزب. كان نشاط المنظمة آنذاك یزداد باستمرار، رغم الوضع الامني الخانق، ولذلك فھي تعد من المنظمات البارزة على مستوى المنطقة الجنوبیة، وتمیزت بفعالیاتھا الجماھیریة المختلفة، ولا عجب ان تصل عضویة الحزب فیھا عند منتصف السبعینات من القرن الماضي، أي قبیل سفري الى الدراسة، الى اكثر من 400، عدا الاصدقاء المتبرعین.
بعد الكلمات الجمیلة واعادة شریط الذكریات القدیمة مع أبي يوسف، سألته: لماذا لم یاخذ الحزب ومنظماته المختلفة الاحتیاطات اللازمة لتفادي مثل ھذه الخسائر الفادحة في التنظیم؟، واین التنظیمات الخلفیة، او الاحتیاط كما كان یُعمل بھا سابقا؟، واستشھدت بمثال عن بعض الخلایا التي عملت شخصیا وبمساعدة العزیز ابو سناء (جاسم الموسوي) في عام 1974، للم بعضھا في الاھوار، وھي من بقایا التنظیم المسلح، وكانت لنا ایاما ولیالي متعبة لاستكمال ھذه المھمة بعیدا عن انظار وعیون رجال الامن. وحینما غادرت العراق في عام 1975، اتفقنا بان لا یتم كشف ھذه الخلایا بشبابھا الرائع الشجاع والمسلح تلقائیا مھما كان السبب؟، فكانت اجابة (ابو یوسف) لا تخلو من الغموض والتبریر، بان الامور في زمن (الجبھة) قد تغیرت، واصبحت كل تنظیماتنا مكشوفة وبدون حذر، وان الھجمات الامنیة الشرسة قد بدأت من الاطراف في الغالب، لا سیما وان المنظمات الدیمقراطیة، كالشبیبة واتحاد الطلبة ورابطة المراة قد جمدت او بالاحرى قد حلت، وھذا ما لمسناه في الخارج ایضا، حیث تم تغییر اسم رابطة الطلبة العراقيين، وهي اكبر منظمة دیمقراطیة للحزب في الخارج، الى (مجلس الطلبة العراقیین)، وبالطبع بضغط من مؤسسات النظام السابق. واحب ان اشیر ھنا ان نسبة كبیرة من اعضاء الرابطة، كانت تعارض مثل ھذا التوجه الخاطئ للحزب، وانا احدھم ومعي معظم المنظمة في مدینة لینینغراد وما یتبعھا (تنظیمات بلاروسیا).
على أثر ھذا الموقف لمنظمتنا، سمعت كثيرا من طیبة الذكر (العمة) عمیدة، التي تقود لجنة الاتحاد السوفییتي، قولھا: اننا ابتلینا دائما بالاتجاه الیساري لھذه المنظمة (أي لینینغراد)... انه لامر یصعب ھضمه، ولماذا اعطیت ھذه الثقة العمیاء لنظام لازالت دماء الشھداء من جراء الانقلاب الاسود عام 1963 لم تجف؟، وما جرى بعد ذلك من قمع من قبل ناظم گزار وقصر النھایة وغیرھا؟. لقد تم تخدیر المنظمات بمسكنات الجبھة (الوطنیة)، واعطیت ثقة كبیرة للنظام، ولا سیما في الخارج، واتذكر في ھذا المقام، بان منظمتنا قد قادت حملة ضد ما یفعله الحكم الدیكتاتوري المقبور، وكان احد اللقاءات مع منظمات الاحزاب الیساریة لامریكا اللاتینیة، بما فیھا منظمة الحزب الشیوعي الكوبي، وكان ممثلھم كما علمت من الكوادر المتقدمة، وقد قال بما معناه: (لقد حیرتمونا بسیاستكم المتذبذبة، وانه من الصعب الآن تغییر سیاستنا مع بغداد، وذلك لتشابك المصالح، وكان ھذا بسببكم بعدما تمت تزكیة نظام البعث من قبلكم... الخ). وبھذا الصدد تذكرت الخطأ الذي ارتكبته بخروجي الى العمل العلني، الذي لم امارسه سابقا رغم ان ھذا كان قرارا من اللجنة الحزبیة في الاتحاد السوفیتي ولم اكن مقتنعا آنذاك.
توقف ابو یوسف عن الكلام قلیلا، عندما ذكرت له مثل ھذه الوقائع، وبعد لحظات اراد مجاملتي، بان الوضع قد تغیر الآن، ونرغب بتصلیح الامور، وما حركة الانصار الا تجسیدا لذلك. ضحكت بألم، وقد فھم عدم قناعتي بمثل ھذه الاجابة، ثم غیرنا مسار الحدیث نحو الامور الشخصية وذكریاتنا القدیمة في البصرة.
بعد فترة النقاھة من تعب مسیرة العودة الاولى، التي امتدت لایام عدة ونحن موجودون في المقر الرئیسي لقاطع بھدنان، والذي تقوده منظمة حزبیة اصبحت عضوا فیھا من خلال مركزي الحزبي، وكنت احضر اجتماعاتھا الدوریة بقيادة ابو یوسف باعتباره المستشار السیاسي للقاطع، ويحضر بعض اجتماعاتها ابو جمیل مسؤولھا العسكري. وخلال ھذه الفترة، كانت تتوافد اعداد جدیدة من الانصار عبر الحدود التركیة باستمرار، وتتوقف احیانا لظروف الطریق.
ان اختیار مقر القاطع، كان موفقا رغم انه یقع بمحاذاة الحدود التركیة، ولا یفصله عنها سوى جدول ماء صغیر یصب في نھر الخابور الذي یقع على ضفافه مقر الحزب الدیمقراطي – الفرع ألاول –، وبالحقیقة كان موقعه ملاصقا لمقرنا. یعد ھذا الوادي حصینا من الناحیة الامنیة، اذ یشبه بتركیبته الطبیعیة مع الجبال، كبناء بلا سقف الى حد ما، حتى كان یوصف من قبل الانصار: بالحمیدیة (نسبة الى سوق الحمیدیة في دمشق)، وفي مقدمتھم طیب الذكر ابو عادل البصري او كما یُطلق علیه (الشایب)، والأدھى من ذلك، فان مرافقنا الصحیة تقع في الجانب التركي. كانت الغرف التي تأوینا مبنیة من الحجر الجبلي والطین، وكانت ملاصقة للجبل القریب جدا للنھر، ولھذا، فان قذائف المدفعیة التي تطلق علینا من قبل الربایا العراقیة القریبة، وخاصة في وقت الظهيرة واثناء وجبة الغداء، لا یمكنھا الوصول الینا، وقد اعتدنا علیھا. اما الاستحمام، ففي مكان خاص یحتوي على اناء كبیر لتدفئة الماء، بالاضافة الى مدفأة (صوبه) كالتي یستخدمھا القرویون الكورد، ويكون وقودها خشب الاشجار، وقد بدأنا باستخدامھا منذ الشھر العاشر، لان الطقس بارد في ھذه المنطقة التي تمتاز بتساقط الثلوج. ورغم تعودي على درجات الحرارة المنخفضة في لینینغراد، والتي وصلت الى 40 درجة مئویة تحت الصفر، الا اني اشعر بقساوة البرد اكثر، ولا سیما اثناء الحراسات اللیلیة.
كان لدینا كلب شدید الذكاء، ولھذا، یُعد حارسا أمینا و(جھاز) انذار، والغریب فیه، كان یمیز بین انصارنا وجيراننا من عناصر الحزب الدیمقراطي. كان یستقبلھم بالنباح الشدید، ویعترض طریقھم بشراسة، بیمنا یھز ذیله بلطف وحنان لانصارنا. تعلقنا به وأحببناه جمیعا، لكنه بالمقابل كان یزعج عناصر (حدك)، ولھذا فان مقتله كاد ان یثیر مشكلة كبیرة بیننا وبینھم.
تمتاز تشكیلتنا عن الدیمقراطي الكردستاني وبقیة الحركات المتواجدة في المنطقة، بتنوعھا العرقي والديني والمناطقي وغير ذلك من باقة الزھر العراقیة. وبالرغم من هذا التنوع، لم الاحظ او اسمع ان نصیرة او نصیرا سأل رفيقه عن دینه او عرقه، وقد ازدانت ھذه التشكیلة الرائعة بوجود النصیرات البطلات وھن یؤدین الواجب بكل امانة من الحراسات النھاریة واللیلیة وبقیة الواجبات الاخرى.