بعد الهجوم العراقي الواسع للأيام الماضية، وخوفا من ان يقوم الجيش العراقي بتوسيع عملياته العسكرية ضد مواقع الأنصارالمختلفة القريبة من ساحة العمليات، لجأ الحزب الى تغيير مواقعه وحولها الى موقع (بيربنان) بشكل مؤقت حتى ايجاد اماكن اخرى مناسبة، وبذلك اصبح مقر الفصيل مزدحما جدا وليس هناك اماكن تكفي لنوم الرفاق وتوفير التموين الكافي لهم. واصبح الموقع كخلية نحل من الصباح وحتى المساء. العشرات من البغال وهي تحمل معدات وتموين وآلات واسلحة وغيرها وتبحث عن مكان ملائم لتفريغ حمولتها.

يقع الفصيل في وادي محاط بسلسلة جبلية عالية من كل الجهات وتكثر فيه اشجار التكي والجوز والبلوط الضخمة، وعلى مقربة منه عيون ماء عذبة نابعة من بطون الجبال، وهي مصدر الفصيل في احتياجاته المائية، اضافة الى فروع من انهار صغيرة عديدة. يتكون فصيل بيربنان من الرفاق (ابو محمد روماني) آمر الفصيل العسكري و( ابو شهاب ) الأداري والرفيق (ابو زويا) المستشار سياسي..

يحتوي مقر فصيل بيربنان على غرفتين صغيرتين لنوم العوائل وقاعة كبيرة تسع اكثر من عشرين شخصا اضافة الى المرافق الأخرى، وهناك على بعد 300 م تقريبا، تتواجد قاعات اخرى متجاورة استغلتها بعض فصائل الأنصار التي تركت مقراتها وأنتقلت الى هذا الموقع ونصبت بعض الخيم في اماكن متفرقة لسد حاجة ونوم الرفاق الذين زاد عددهم عن قدرة واستيعاب المقر لهذه الأعداد من الرفاق .

في يوم غائم تم تبليغـنا مع حوالي عشرين نصيرا بأنشاء موقع متقدم جديد آخر يبعد عن موقع الفصيل بعدة كليومترات في اخاديد جبلية وعرة وطرق ضيقة لا يصلها البشر، الأرض موحلة بسبب الأمطار للأيام الماضية ونحتاج الى عدة ساعات للوصول الى المكان المقترح. لا أثر لوجود أي بناء في الموقع الذي يقع على تلة عالية وعلينا نصب خيمة كبيرة تسع لهذا العدد من الرفاق وسط الأمطار الغزيرة التي بدأت تتساقط والأوحال الناتجة عن ذلك لتكون ملجأ لنا. بعد ساعات من العمل الشاق وسط الأمطار تم نصب الخيمة في المكان المقرر ولكن من يستطيع النوم فيها والأرض تحولت الى برك طينية. حاولنا ان نزيل الطبقة العليا من التربة دون جدوى، فالرطوبة والمياه وصلت الى اعماق التربة. الليل يقترب ولا يوجد حل آخر غير التكيف مع الواقع. فرشت الأرض بالنايلون ووضعنا عدة حصران بلاستيكية وفوقها مجموعة من البطانيات القديمة ومن ثم دواشك اسفنجية خفيفة للنوم ومدفأة كبيرة، ولكن من يستطيع النوم. الأرض الطينية تتموج من تحتنا وبرودتها تدخل العظم وتسبب آلاما شديدة خاصة بالنسبة للذين يعانون من آلام الظهر والفقرات والروماتزم .

أصبنا بالأعياء طوال الليلة الأولى وحتى صباح اليوم التالي، لم ننم سوى اقل من ساعتين، كل منا مشغول بهموم عديدة تشغل باله، ولا يستطيع التعبير عن معاناته. أحيانا احس بالذنب تجاه زوجتي النصيرة ام سوزان ومعاناتها الصحية وكان المفروض ان تكون في مكان أفضل لتحصل على العلاج وانا المسؤول عن معاناتها ولكن الى متى؟ وهي تحس بما افكر تجاهها حيث كانت معاناتنا مشتركة .

في اليوم التالي توقفت الأمطار وساعدت المدفأة على تجفيف الأرض نسبيا ولعدة ايام. كنا نخرج كل ما في الخيمة الى الخارج ونعرضها الى الشمس والتهوية حتى تحسن الوضع تدريجيا، ولكن برزت لنا مشكلة اخرى هي توفير التموين وتم اللجوء الى القرى التركية القريبة للحصول على ما يمكن الحصول عليه من هناك ألا ان متابعة الجندرمة الأتراك لأعضاء حزب العمال التركي PKK ودخولهم الأراضي العراقية لعدة كيلومترات كانت تحول دون البحث عن التموين، وكانت طائرات الهليكوبتر التركية دائما ما تحلق فوق موقعنا بعد ان نلجأ الى ثنايا الجبال والصخور المحيطة بالمقر .

بمرور الزمن استقر الوضع العسكري على الحدود العراقية الأيرانية وهدأت الجبهة ووجدت فصائل الأنصار المختلفة مواقع جديدة مناسبة لها وتقلص عدد الرفاق في موقع فصيل (بيربنان) الى عدد مناسب، ولظروفنا الصحية تم ارجاعي وام سوزان الى بيربنان ثانية .

كانت توجد امام مقر الفصيل ارض خالية متروكة ولتوفر المياه تولدت لدينا فكرة للأستفادة منها بزراعتها بالخضروات، وفعلا تم ذلك بتعاون جميع رفاق الفصيل وتم الحصول على البذور بواسطة احد المهربين من تركيا وزرعت الأرض، وبعد عدة اسابيع بدأت بالأنتاج الذي اخذ يسد حاجة الفصيل وفصائل اخرى كما وتم الأهتمام بتربية عدد من الدجاج وتجميع البيض وتوزيعه بيضة واحدة لكل رفيق اسبوعيا. كان رفاق الفصيل كخلية نحل كل واحد يعمل شيئا ما لتحسين الحياة البسيطة في مقر الفصيل، وساهمنا في ايصال المياه الى حوض في مكان عال مناسب لغسل الصحون بعد الأكل بدلا من غسلها في الساقية مباشرة، وتم ايصال المياه عبر الأنابيب المطاطية الى الحمام واستعماله مرة اسبوعيا، اضافة الى عقد الأمسيات بين فترة واخرى .

من جانب آخر كان الموقع مليء بالثعابين المختلفة الأحجام وبالعقارب الصفراء السامة المخيفة ومع ذلك لم تقع اية حادثة لأي رفيق، وهنا اتذكر الرفيقة نوروز التي كانت تحاول نصب خيمة لها في اماكن متعددة من المقر، ولكن بعد ساعات تكتشف ان هناك عدة ثعابين تتحرك تحت البلاستك الذي يغلف ارض الخيمة من الداخل مما يجعلنا نبحث عن مكان آخر لنصبها ولعدة مرات الى ان تخلت عن المهمة .

في هذا الموقع ألتقينا مع أخي الفقيد النصير سلام (د. ابو تانيا) حيث جاء من فصيل الأعلام المركزي لزيارتنا ليومين وكان لقاء لا يوصف بعد فراق طويل، وكان هذا اللقاء هو الأخير على ارض الوطن أما لقائنا الآخر فكان بعد اربع عشر عاما في ألمانيا حيث استقر هناك وودعناه فيها الى الأبد .

كانت ظروفي الصحية وظروف ام سوزان تسوء تدريجيا، هذا من جانب ومن الجانب الآخر كانت الظروف في المنطقة تسير نحو المجهول وتولدت لدى الحزب فكرة اخراج بعض العوائل الذين يعانون من مشاكل صحية من كردستان حتى لا يكونوا عائقا عند الطوارئ، فتقرر سفرنا الى ايران كلاجئين ومن هناك يمكننا الذهاب الى سوريا وعلينا ان نتابع الأمر بأنفسنا طالما نحمل جوازاتنا العراقية النافذة ولمدة قد تكون طويلة او قصيرة. كانت معاناتنا في أيران كبيرة ولمدة تجاوزت العشرة اشهر وهذا ما سنتحدث عنه لاحقا..