كما أسلفت في مناسبات عديدة سابقة، وأعيد التأكيد، بأن الحزب الشيوعي العراقي، عندما قرر اتخاذ الكفاح المسلح، بصيغة حركة الأنصار بدءاً من كردستان، أسلوبا رئيسياً في الكفاح السياسي، من أجل العودة والدفاع عن وجوده، وإعادة بناء منظمات الحزب في كل أنحاء البلاد، كان على بينة من أنه يتناسق، ويترابط بلا انفكاك، مع أساليب ووسائل كفاحية أخرى لها نفس الأهمية، في اطار النضال الشامل وضمن وسائل العمل الثوري لبلوغ الأهداف المرحلية والاستراتيجية. ولم ينوي الحزب قطعاً في ترسيخ نهج عسكرة بناه التنظيمية. كان واعياً، وهو يسترشد بالمنهج الجدلي الديالكتيكي، جوهر الفكر الماركسي، أن الكفاح المسلح منفرداً منعزلاً، دون هذا الترابط، كان يعني تجريده من كل وسائل العمل الجماهيري، ويصبح بذلك مجرد فصائل ووحدات عمل مسلح محاصرة في الجبال. وبمعنى آخر كان الحزب سيفقد إمكانية الجمع الجدلي بين حلقات النضال الأساسية في العمل الوطني الثوري. ويفقد طابعه التاريخي، كونه حزبا جماهيرياً للطبقة العاملة ولكل شغيلة اليد والفكر في العراق. وبهذا يخدم مخططات القوى المعادية، وخاصة نظام القتل والقمع الصدامي، في سعيه ولمرات لتصفية وجود الحزب ومنظماته الكفاحية.

إذا كان طبيعياً، أن تباشر منظمات الحزب ووحدات الأنصار، بتشكيل هيئات ومكاتب للإعلام والعمل الصحفي والثقافي، في كل المقرات، ولكل مفرزة ووحدة من الوحدات الأنصارية. وبدأت بقدرات وإمكانيات محدودة، ولكنها، ومع الوقت، ترسخت وصارت تنشط بحيوية حتى خلال التجوال في وديان وقرى وقمم وسفوح كردستان.

وفي تجربتي الخاصة، وهي قطعاً محدودة بالمعنى الشمولي والواسع، مقابل الانتشار الواسع لباحات ومساحات الانتشار والعمل. وأعتذر هنا لأنني وفي كل كتاباتي وأحاديثي، وخاصةً في كتابي المتواضع " في ذاكرة نصير... نصوص من سيرة أنصارية"، كنت أبتعد عن ذكر نشاطاتي ودوري في هذا الميدان وفي ميادين العمل والكفاح الأنصاري، بل كنت أحرص وحرصت على ذكر أفعال ونشاطات الأنصار الجماعية والفردية، لمبدعين نشطوا في الهياكل الإعلامية والنشاطات الإبداعية، الفكرية والأدبية، وأصبحوا بعد الخروج أسماء إبداعية لامعة في عوالم الفن والأدب. قلت من تجربتي، وبمجرد وصولي إلى مقر قيادة قاطع بادينان للأنصار، في كلي كوماتا، وأنا القادم من بيروت، حيث عملت ولسنتين في ميدان الصحافة والإعلام للحزب ولمنظمات فلسطينية، تعرفت على وجود مكتب لإعلام القاطع، وكان يضم رفاقاً أنصار، سبق وأن نشطوا في هذا الميدان من صحفيين ومبدعين. كنت أعرف بعضهم، حيث سبق وأن التقينا في ظروف وميادين عمل حزبي سابقة.

انضممت إلى فصيل الحراسة (السجن)، وحظيت بلقاء العزيز الشاعر المبدع أبا طالب (عبد القادر البصري)، حيث كان مستشاراً سياسياً للفصيل. وبعد حين كلفت بإعداد النشرة الإخبارية اليومية، وكنت أشارك في بعض النشاطات المحدودة في الفصيل وفي المقر. كنت أمضي الليل في عملية أعدادها، مستخدماً جهاز راديو بسيط، وعلى ضوء الفانوس الخافت، لأصبّح الرفاق بقراءتها وسط التعليقات اللطيفة للغالي الشهيد أبو كريّم، وكان آمر الفصيل العسكري.

بعد التهديدات التركية لمقر القاطع بالهجوم والتدمير، قررت قيادة القاطع بقيادة القائد الفذ أبو جميل (فقيدنا توما توماس)، الشروع بالانتقال إلى مناطق في عمق كردستان العراق، وبعيدا، قدر الإمكان عن الحدود مع تركيا. ثم تعرضت مفرزتنا التي صعدت إلى أعلى قمة تحيط في منطقة حاولنا البقاء فيها لحين، وكنت أحد أفرادها، تعرضت لهجوم مفاجئ من قبل الجندرمة الأتراك، فاستشهد بيننا الرفيق الخالد أبو فكرت، وتعرض رفاق آخرون، لإصابات وأوضاع صعبة وحرجة. وبعد هذه الحادثة المؤلمة والتي تركت أثراً عميقاً في روحي، حيث بقينا أنا والرفيق أبو زيدون محاصران ونحن معلقان على حائط صخري تحت تهديد فوهات أسلحة الجندرمة الأتراك، ولساعات حتى هبوط الظلام. أقول بعد هذه الحادثة واصلت قافلة أنصار القاطع المسير حتى بلوغنا مقر الفوج الثالث في كلي حصبة. ولم ننقطع وحتى في مثل هذه الظروف عن القيام بنشاطات ثقافية وإعلامية، الأمر المساهم في رفع معنويات أنصارنا. وثم انتقلنا إلى المقر الحديد للقاطع في منطقة زيوة بمحاذاة شاطئ نهر الزاب. وهنا بدأت عملية إعادة ترتيب الأوضاع التنظيمية للمقر وأنصاره. وبينها إعادة تشكيل مكتب إعلام القاطع، وبعد ذهاب رفاق إلى مواقع أخرى. واصبح المكتب يضم الرفاق أبو سعد، وأبو نهران وأبو هشام وأنا بينهم. وكان المكتب بإشراف الرفيق الفقيد ابو هندرين والذي كان مستشاراً سياسياً لسرية القاطع (أعقباه بعد حين الرفيقين أبو عبير، وبعد نزوله إلى الداخل، أبو جواد). وكلفت أيضاً بمسؤولية اللجنة الثقافية للسرية مع الرفيق ابو نسرين لاسلكي.

ومن هذا التكليف الجديد صرت أتعرف بشكل أوضح على مفاصل العمل الإعلامي – الثقافي، سواء في المقر أم في جميع باحات العمل الأنصاري الاعلامي. في وحدات، سرايا ومفارز وأنصار القاطع. حيث كانت تنشط مكاتب ولجان إعلامية وثقافية في كل سرية ومفرزة. وفي مقري الفوجين الأول والثالث لقاطع بادينان. وفي مكتب أعلام القاطع، كنّا واضافة لأداء مهامنا الأنصارية اليومية (الطبخ وتهيأة الخبز والحراسات والمفارز المرتبطة بمراسلات وأعمال قيادة القاطع، حيث كنّا في فصيل الحماية). إضافة لكل ذلك كنا نعمل على إصدار جريدة النصير، وكلفت في الهيئة بمتابعة نتاجات الأنصار عبر بريد الأفواج والسرايا والمفارز، واختيار ما هو مناسب للنشر أو الرد على بعضها. كما كلفت بالعمل ضمن لجنة الأعلام لجبهة (جود) مع إعلاميي القوى الكردستانية الأخرى، مشاركاً في نشاطاتها، وبينها إصدار نشرة باسمها وتنظيم نشاطات مشتركة كالاحتفال في أعياد نوروز. وواصلت في اطار عمل لجنة الثقافة في سرية المقر بإعداد النشرة الإخبارية الصباحية، التي كانت توزع لفصائل السرية (الأسناد والإدارة والدوشكة)، وتنظيم فعاليات سياسية وفكرية وإبداعية في المقر. ولن أنسى الجهود التي بذلناها في أعداد برنامج غني دام لمدة أكثر من أسبوع تصاعدياً ليوم الاحتفال بالذكرى الخمسين لميلاد الحزب، وكنت أنسق مع الرفيق مستشار القاطع السياسي حينها أبو العباس (مهدي عبد الكريم). كما بدأنا بإصدار (مجلة زيوة) الإبداعية، ولا بد من ذكر أنني استثمرت مرور الرفيق المبدع كاردو لأعداد تصميم متميز للمجلة لكي لا تكون بشكل دفتري. وبالمناسبة كانت كل الوحدات تصدر مجلات دفترية وكانت تصل نسخ منها إلى مكتب أعلام القاطع، التي كان يحرص بدوره، على ارسالها إلى مكتب الأعلام المركزي في منطقة لولان حينها.

ولا بد لي، ومن باب الأمانة والموضوعية، أن أشير إلى الدور الجميل لمكتبيّ الأعلام في الفوجين الثالث والأول. ففي مقر الفوج الثالث، وبعد انتقال النصير أبو زياد إلى مناطق الأعلام المركزي، تحمل الرفيق أبو صمود إدارة نشاطات وأعمال المكتب وبشكل نشط، وكنت شخصيا على تواصل مستمر معه إضافة لإسهاماته المتواترة لرفد صحيفة النصير. وفي الفوج الأول كان المكتب الإعلامي يتشكل من رفاق متمكنين حقاً وتميزوا بحساسية عالية تجاه العمل الإعلامي الأنصاري والجماهيري في المنطقة. وكان الرفيق أبو طالب (الشاعر عبد القادر البصري)، هو من يقود عمل المكتب، إلى جانب الرفاق أبو رعد ( الشاعر المبدع كامل الركابي)، والشهيد الفنان التشكيلي والأنسان الخلوق الجميل أبو آيار، وكان النصير الروائي أبو الفوز (يوسف أبو الفوز)، ناشطا مع المكتب في تنظيم وتنفيذ فعاليات مكتب الأعلام للفوج الأول. كنت أيضا على صلة سواء عبر البريد أو في لقاءات مباشرة عند مقدم أحدهم إلى مقر القاطع، أو عند ذهابي إلى مقر الفوج في حالات الذهاب مع مفرزة من القاطع. كانوا وفي كلا المكتبين متعاونين دون أية "عنعنات" أو عوائق، وفي أذهاننا جميعاً، وفي نهجنا كان فقط توجه تقديم أقصى ما يمكن من خدمة العمل الأنصاري في واحدةٍ من أهم حلقات الكفاح اليومي.

طبعاً واجه النشاط الاعلامي والثقافي في جميع وحدات حركة الأنصار عوائق ومصاعب جدية. فإضافة لالتزام القائمين بها بمهام العمل الأنصاري اليومي كما أسلفت، كانت هنالك لدى بعض الرفاق، وخاصة بين مسؤولي العمل العسكري، نظرات ضيقة إلى أهمية العمل في هذا الميدان، وكانوا عملياً يحجمون عنه واعتباره ثانوياً في كفاح الأنصار، وكان البعض ينظر الى المبدعين وكأنهم كسولين أو غير جادين في النهوض بالأعمال الأنصارية. والمنطلق هو الفهم الناقص لما ذكرته في بدء هذه المقالة. وكأن الكفاح الأنصاري ينحصر أساسا فقط بالعمل العسكري البحت والقيام بواجبات النصير اليومية. ولقد اصطدمت شخصيا مع هذا الواقع، بل وتعرضت لعقوبات لأنني كنت أحرص على انجاز مهامي الإعلامية والثقافية!.

وفي مستويات أخرى، كانت مكاتب إعلام الأفواج والسرايا جادة ومثابرة في القيام بنشاطاتها الإعلامية، رغم المصاعب وعدم الاستقرار بالنسبة للمفارز المتجولة. كان الأنصار بشكل عام والإعلاميون بشك أخص يحرصون على حمل دفاترهم في "عليجاتهم- حقائب الظهر"، الدفاتر لتسجيل ملاحظاتهم ونتاجاتهم الإبداعية، التي يقومون بها خلال أوقات الراحة وليالي المبيت في القرى. ولقد ظهر وبرز مبدعون ناشطون، بينهم من لم يكن لهم باع أو معرفة سابقة. بالعمل الاعلامي والإبداعي. نعم ظهر كتاب شعر وقصة ومبدعون في التحليلات السياسية والفكرية. وأعتذر إذ لا أورد العديد من هؤلاء الذين أكن لهم جميعاً كل المودة والتقدير. ولكني أذكر من كنت أعتقد بأنهم سيكون لهم باع في ميدان الفكر والأبداع. أذكر الشاب الجميل والشاعر الواعد ياسين من الفوج الأول، حيث كنت أتواصل معه باستمرار وأتابع نتاجاته الجميلة حتى نزوله واستشهاده بثبات. وأذكر العزيز أبو فاتن الذي كتب نصوصاً قصصية جميلة كانت تشدني، كما أذكر المبدعين التشكيليين كالأعزاء فائز وأبو الحق وأبو حنان، وأبو بسام، وغيرهم أخرون.

طبعاً كان للجنة الأعلام المركزية في مناطق لولان الدور الكبير في تثبيت أركان هامة للنشاطات الإعلامية، حيث كان يصدر جريدة طريق الشعب ولو بحلتها البسيطة، وكانت أذاعه (صوت الشعب العراقي) تحيي الأرواح وتعمق الالتصاق بالحزب وبحركته الكفاحية. كما أصدرت اللجنة جريدة (نهج الأنصار) الواسعة الانتشار حينها. فقط لا بد أن أشير (ومن باب الموضوعية) أنه كان هنالك بعض تقصير في التواصل والتناسق بين عمل المكاتب الإعلامية وخاصة في ضرورة متابعة لجنة الأعلام المركزية لهيئات الأعلام وللرفاق الإعلاميين الأنصار في باقي القواطع والوحدات. وفي ذلك لدي الكثير من الشواهد والأمثلة التي لا مجال لذكرها هنا.

لا أدعي أنني تمكنت من استيعاب كل ما له علاقة بواقع العمل الاعلامي في حركتنا الأنصارية. هي محاولة تستجدي مساهمات الرفاق المعنيين الآخرين، وأعتذر أن سهوت عن ذكر بعض الأمور ربما هي تفصيلية بالنسبة لي.

وأحيي هنا كل من ساهم في العمل وتنشيط هذا الجانب الهام في حياتنا الأنصارية، وهي أنصع صفحة في كفاح الشيوعيين والوطنيين من أجل خير العراق وشعبه..!.