ابو كويظم، ذلك الفتى الاسمر الملوّح بشمس الجنوب، الموهوب والحالم المتأمل، الباحث عن الحرية والجمال، هو (كريم عبدالزهرة) ابن مدينة الزبير الوادعة، السخية، المترعة بطيبة اهلها، والزاخرة بدواوينها الاجتماعية، وبأشعاعات بيوتاتها التنويرية التقدمية، وتقاليدها الثقافية العريقة. ورغم ما يبدو على سطحها من مظاهر المحافظة، إلا ان في مكامن اعماقها وفي تكوينها الداخلي يتوهج جمر التطلع الى الانفتاح والنزوع للاغتراف من العلم والمعرفة والفكر الانساني. وقد حمل ابو كويظم معه نكهة مدينته وخصالها الطيبة، عندما اختار كردستان ملاذاً لشخصه، وفضاءً آخرا لمواصلة ابداعه وكفاحه من اجل حياة افضل، وكان وادي كوماته محطته الاولى.
في وادي كوماته القريب من الحدود التركية في منطقة بهدنان عمل ابو كويظم مساعدا للطاقم الطبي في القاعدة الانصارية، المتكون من الدكتور ابوصلاح والمضمد ابوصارم والممرضة ليلى ره ش. عن ربيع عام 1983 كتب الاستاذ نبيل يوسف دمان في مقال له عن ايام وادي كوماته الاتي: [عندما حدثت في ذلك الربيع انهيارات ثلجية تسمى محليا ً (آشوت)، كان الدكتور ابو صلاح من اوائل من هبوا لانقاذ ومعالجة الذين اخرجوا احياء من تلك الانهيارات. اذكر عندما تأتي مفرزة لتصطحب الممرضة ليلى، كان (ابو كويظم) ذلك المقاتل الجنوبي، يقود فرسها عبر المسالك الوعرة لتفقد احوال المرضى وخصوصا ً النساء، وقد كانت التقاليد تحرم عرض المرأة للطبيب].
يروي د. سعد اسماعيل عن ابن مدينته (ابوكويظم) الاتي: "هو الابن الاصغر لعائلة كادحة تسكن حياً شعبياً في قضاء الزبير يدعى (محلة الحساوية)، وفي دار طينية متواضعة، فتح عينيه على الدنيا عام 1961 محاطاً برعاية الوالدة والاشقاء الثلاثة، تيّتم مبكراً، فقد توفي الاب، تاركاً زوجة واربعة ابناء، وكان مورد العائلة المعاشي، يقتصر على مرتب لا يسد الرمق يحصل عليه الاخ الاكبر حسين عبدالزهرة من عمله حارساً في مستشفى الزبير الجمهوري، وهوالمعتل صحياً، والذي لم تمكنه حالته المرضية من البحث عن عمل آخر بدخلٍ افضل.
نهض بأعباء العائلة بعد وفاة الاب اخوه العامل الشيوعي صادق عبدالزهرة، متنقلاً بين مهن متعددة، وغالباً ما عمل بائعاً متجولاً للمأكولات واشياء اخرى غيرها. وبالرغم من يوم عمله الطويل، كان يجد له متسعاً من الوقت لممارسة رياضة الملاكمة، والتدريب المنظم والمتواصل عليها، حتى حصل على بطولة المنطقة الجنوبية للناشئين، كما لم تثنه صعوبات الحياة على التواصل مع الكتاب، فقد كان قارئاً نهماً مهتماً بالادب والسياسة. وبتأثيره الشخصي اقترب ابو كويظم من العمل السياسي منذ صباه المبكر من خلال المشاركة في النشاط الديمقراطي منتظماً في حلقة اصدقاء تابعة لخط الطلبة.
تعرّض ابو كويظم للكثير من المضايقات، بسبب رفضه الانصياع لاملاءات المنظمة الطلابية للحزب الحاكم في مدينة الزبير، وتم الاعتداء عليه مرات عديدة، ولكنه واجه التحدي بشجاعة. التحق في صفوف الانصار عام 1982 في قاطع بهدنان، وقد استطاع الوصول بمساعدة شاب من اقرانه اسمه نزار هدايت ــ ابن عائلة كردية تسكن قضاء الزبير، والمولود فيهاــ ومن الجدير بالذكر ان العائلات الكردية المستقرة في قضاء الزبير يعود اصلها الى دهوك وزاخو، وقد كان لهذا الشاب دوراً مشرفاً في ايصال الرفيق النصير ابو الحق ايضا."
تدرب على السلاح وتعلم فنون القتال في الجبل مع رفاقه الانصار، وكان شخصية محبوبة جداً، مثابراً نشطاً، سريع التعلم، اتقن بدقة تضاريس الجبل وتعرف على اسراره، ولم يتخل عن رفقة الكتاب، رغم المشاغل والمهمات. كتب الشعر ونشر العديد من القصائد في الصحافة الانصارية، وشارك في العديد من المفارز القتالية، وكان ضمن المفرزة القتالية التي قدمت من بهدنان لنجدة المجموعات الانصارية لقوات الحزب الشيوعي المتواجدة في منطقة بشتاشان، وكان على رأس المفرزة مكتب الفوج الثالث الذي ضم الشهيد نزار ناجي يوسف (ابوليلى)، الشهيد جبار شهد (ملازم حسان)، والشهيد الدكتور غسان عاكف حمودي (د.عادل)، وقد استشهد الرفاق الثلاثة في معارك بشتاشان الثانية في مساء الاول من ايلول 1983، في المرتفعات الواقعة على يمين قرية بولي، في ذات اليوم الذي استشهد فيه الرفيق ابوكويظم والرفيق زهير عمران موسى (ملازم جواد)، في نفس المعركة وفي موقع مجاور، على القمة المطلة على الطريق المؤدي الى (خانقاه).
عندما التحق ابو كويظم الى صفوف الانصار، كان قد انهى الدراسة الثانوية، الفرع العلمي، ولإن حالت منظومة القمع الامنية آنذاك بينه وبين طموحه في اكمال دراسته الجامعية ومواصلة تعليمه العالي، لكنه بقي مصراً مع نفسه على التمسك بهذا الحلم رغم صعوبة وتعقيدات الوضع في بيئة العمل الانصاري، والانشغال بمهام العمل اليومي الاداري والعسكري.
وطأت قدماه الارض الكردستانية، وهو يحمل بين اضلاعه توقاً للقاء اخيه النصير صادق عبدالزهرة الذي غادر البصرة منذ نهاية عام 1978، وكانت الفاجعة معرفته بإستشهاد صادق في حادث عرضي مؤسف صيف 1981. عضّ على اوجاع روحه، وحمل ببسالة راية الكفاح مواصلاً الدرب الشاق الذي سار عليه صادق، حتى لحظة الاستشهاد في معارك بشتاشان الثانية مع قوات الاتحاد الوطني الكردستاني.
ابو كويظم الذي تحدى سلطة الاستبداد والتفرد الغاشمة في الزبير بصموده، محافظاً على شرف إنتمائه وحرية خياره الفكري والسياسي، تمنطق بالجبل والبندقية، حاملاً محبة الوطن الممتد من حافة الصحراء في الجنوب حتى ذرى قمم قنديل. تحدى ثانيةً بدمه المهدور تلك الرصاصات الغادرة التي اطلقها معتدٍ، معارض يتفاخر متقمصاً دور الجلاد.