الحصار بات أمرا واقعا. الجحوش الزيباريون على يميننا احتلوا رؤوس التلال والقمم الجبلية، والجيش على يسارنا وخلفنا. لم يتبق لنا للنجاة من هذه الكماشة غير النهر، نهر الزاب. كان علينا عبوره إلى الضفة الأخرى ومن هناك نتسلق سفوح جبل شيرين. لكن النهر في حالتنا تحول هو الآخر إلى عدو، إلى جدار رابع لحصارنا. كانت المسافة المتروكة لنا منه هي الأوعر والأشد جريانا. جردنا قوانا، وكنا 29 نصيرا، تبين أن من يجيد السباحة منا 5 فقط. إذن لا محالة من تشديد البحث بين المزاغل وتحت الصخور عن إطارات المطاط التي يستخدمها الأهالي عادة لعبور النهر. كان بحثنا يشبه من يبحث عن قط أسود في مكان أظلم. لكن على أي حال وجدنا عددا منها وكانت إما مثقوبة أو بحاجة إلى نفخ. ولنفخ إطار جرار زراعي بفمك، تحتاج إلى رئة ديناصور!.
تبرع عدد من "الديناصورات" من بيننا للنفخ، ونجحوا في نفخ أحد الإطارات. القصف المدفعي العشوائي الذي يستهدف كل مكان تقريبا لم يتوقف طوال النهار. كنا متخفين في ملاذات آمنة نسبيا من هذا القصف، ولم تبعد ملاذاتنا عن النهر مسافة طويلة. كنا نعلم أن عددا غير قليل من القرويين النازحين من بيوتهم قد حوصروا في قمم جبلية غير بعيدة عنا، بعد أن فشلوا في العبور.
عند المساء وقبل مغيب الشمس، ونحن نتهيأ للحركة لتنفيذ مشروع العبور الذي لا ندري كيف سيتحقق، سمعنا صوتا لا علاقة له بسمفونية القصف طيلة النهار. كان صوتا طفوليا يغني بشجن، الصوت قريب ويأتي من الطريق الواقع تحت مكان اختفائنا. قصد اثنان منا مصدر الصوت. وبعد دقائق تطاولت، عادا وبرفقتهما طفلة بعمر لا يتجاوز الست سنوات، تحمل بيد قطعة خبز وباليد الأخرى علبة دهن الراعي البلاستيكية الصغيرة وفيها قليل من الماء. ماذا تفعل طفلة وحدها في هذا القفر الجبلي؟!.
طفلة جميلة تبدو عليها سيماء النباهة والذكاء. عرفنا أن اسمها إيوان. أهلها منهم من قتل في القصف ومنهم من غرق ومنهم من عبر إلى الضفة الأخرى. حدث هذا في مساء نفس يوم وصولنا. بعد أن غادر الأهالي إلى قمة الجبل وبعد أن بدا الوادي خاليا إلا منا ومن بعض الحيوانات الداجنة السائبة. وإيوان كانت قد اعتصمت بهذا المكان وحيدة لا تدري ماذا تفعل. وعرفنا أنها من إحدى قرى منطقة العمادية ولها خالة تسكن في زاخو.
ماذا نفعل لهذه الطفلة؟. اجتمعت قيادة المجموعة لاتخاذ قرار يخص هذه الطفلة. كان قرار الأكثرية أننا غير قادرين على اصطحابها معنا، بل ندلها على الطريق الذي ستلتحق عبره بمجموعة من القرويين الهاربين والمعتصمين بإحدى القمم الجبلية ومؤكد ستجد هناك من يساعدها. زودناها بما تبقى عندنا من خبز وماء ووصفنا لها طريق الذهاب إلى تلك القمة الجبلية. وكانت قريبة نسبيًا، ثم توجهنا إلى مشروعنا التخطيط لعبور النهر. ولكن، ما هي سوى سويعات قليلة وإذا بالطفلة تلحقنا عند مكان اختفائنا. لم تقل شيئا، ظلت صامتة لا ترد على أسئلتنا. لكنها مصرّة على رفقتنا. ربما لم تعثر على أحد هناك أو أنها أحست بالأمان معنا، لكن المؤكد أنها باتت جزءا منا. اهتم بها الأنصار بشكل استثنائي، كانت مدللتنا. ولكننا فشلنا في العبور تلك الليلة. كان تيار الماء هادراً مرعباً قد لا ينجو منه حتى السباحون. عدنا إلى مخبئنا ومعنا الطفلة، على أمل أن نستطلع خلال النهار مكانا آخرا للعبور، فوجدنا مكانا بدا أسهل من الأول.
كانت العملية أن يخلع الأنصار ملابسهم ويربطوها مع أسلحتهم بحبل على الإطار، وكل اثنين من غير السباحين يعبران معا يمسكان الإطار المطاطي كل واحد من جانب، ويكون في المقدمة أحد السباحين يسحب الإطار وهو يسبح، وآخر خلف الإطار يدفع الإطار وهو يسبح كذلك. ثم يعود السباحان من الضفة الأخرى مع الإطار لنقل اثنين آخرين. عملية استغرقت الليل بطوله، نجح بالعبور في الليلة الأولى تسعة فقط.
في الليلة التالية، قمنا بتكرار ذات التقنية. وفي كل مرة نؤجل عبور الطفلة للمرة القادمة. وكان التعب قد نال من السباحين ولم تعد أذرعهم تطاوعهم وهم في صراع غير متكافئ مع تيار ماء مثلج وفي انحدار شديد. عدا هذا كنا جميعاً بلا أكل منذ ثلاثة أيام، لأن أرغفة الخبز التي عجنا طحينها بحليب البودرة وقليناها بدهن الراعي قبل أسبوع في محطتنا الأخيرة، نفدت وتعفن الباقي منها من شدة الحرارة.
ظلت إيوان هي الفقرة الأخيرة التي نخاف عليها في هذه التراجيديا من الصراع مع النهر أكثر من خوفنا على أنفسنا. ربطت على الإطار البلاستيكي بشكل لا يجعلها تتحرك خوفًا عليها من أن ترتعب في منتصف النهر وتقفز أو تتحرك. رافق الإطار اثنان من السباحين المنهكين. في منتصف النهر حيث التيار على أشده، خارت قوى السباحين وانقلب الإطار. أصبحت إيوان تحت الماء والإطار فوقها. وحدث على الضفة الأخرى موقف مرعب من الصراخ والنداءات التي أخفاها عن الربايا القريبة صوت هدير الماء وإلا لانكشفنا. بسرعة، رمى اثنان آخران من السباحين أنفسهم في النهر وجعلوه يأخذهم بسرعته إلى حيث إيوان. وبجهد جبار، استطاعا إيقاف جريان الإطار والعودة به مرة عكس التيار ومرة إلى الجانب.. حتى وصلا الضفة. وعندما رفعنا الإطار، ظننا جميعًا أن إيوان قد فارقت الحياة. لكنها كانت في غيبوبة. عمل لها أحد الرفاق التنفس الاصطناعي ونجح في إخراج كميات كبيرة من الماء من بطنها. حتى فتحت عينها وبدأت تنتعش.. عادت إيوان إلى الحياة.
بتلك اللحظة، أدركنا جميعا أن تلك الطفلة الصغيرة كانت رمزا للأمل والصمود. غمرتنا الفرحة والامتنان لأنها نجت. أكملنا عبور النهر، مستمدين من شجاعتها قوة جديدة لمواصلة طريقنا نحو الأمان.