(كلي هسبه)، أسم كردي يطلق على أحد الأودية السحيقة التي تتدلى من قمم جبل متين الممتد لمسافات طويلة تصل الى العشرات من الكيلومترات الوعرة بأرتفاعاته المختلفة، حيث تنحدر مفازات وسفوح (كلي هسبه) الجميل الذي يعني بالعربية (وادي الخيول). وكثيرا ما تسائلنا نحن الأنصار القادمون من بطاح العراق الجنوبية الغارقة بالعواصف والريح الصحراوية المثقلة بالحروب والرمل، حيث عسكرنا في هذا الوادي سنوات عديدة ومديدة ونحن نقارع نظام الدكتاتورية الفاشية. أقول تساءلنا، عن أسباب هذه التسمية الشاعرية.. وادي الخيول!؟، ولكننا بقينا نجتر ذات السؤال في جلساتنا المشتركة حول مواقد النار ونحن نحتسي الشاي الثقيل، الذي سماه الخالد فهد ـ يوسف سلمان يوسف ـ بخمرة الثوار، كما كنا نطرح ذات السؤال في أوقات أستراحات المفارز الأنصارية التي عادة ما تكون بالقرب من منابع الماء بعد المشي ساعات طويلة، وفي كل أجترار، كنا نبقى بلا أجابة.

وادي الخيول .. رنين يملأ الذهن بالأيحاء، وأول الأيحاءات التي تراود ذهن سامع رنين هذا الأسم، هي ضجة الدواب وصدى صهيل الخيل المتناوب وصخب حوافرها وهي تضرب الجلاميد التي تطرز الطريق. ولكنك وأنت في تلك الوهاد العجيب، لاتسمع غيرالصمت وصوت الجندب وخرير الماء المنساب من رأس العين التي تتوسط الوادي، وهو يجري في الساقية الممتدة من العين الى القرى وبساتين المنطقة ترويهم ويرونها. أحيانا لا تظهر هذه الساقية للعيان، تسري تحت الصخر كما لو أن هاجسها الأسرار والغياب، وفي أحايين أخرى تضيع بين الأكمات الخدرة والشقوق الصخرية المستعصية.

صيف وادي الخيول كان حارا خانقا رغم الأخضرار المغبر لأشجار البلوط التي تعبر عن كسوة الطبيعة الصيفية للوادي، وأخضلال ظلها بذاك الفيء المتراقص الشفيف، الذي يفترش الأرض كفراء نمر مرقط. أما شتاءه، فجبة الثلج لا تفارقه، وبرده صعب كحره الفارط بالرطوبة، أليس ذلك امر يدعوا للدهشة!؟. لقد كنا نختنق باشجار الجقل (البلوط) والجوز التي تجبرنا على النوم أذا ما تمددنا تحت أغصانها الحالمة، وقد فسر بعض العارفين بالزراعة ذلك، بأن شجرة الجوز تطرح كميات هائلة من الأوكسجين بسبب أوراقها الكثيفة فيؤدي بجسم الأنسان الى الأسترخاء فيغلبه النوم اللذيذ تحت فيء تلك الأشجار الوارفة والحانية كعاشقة حالمة، أنها واحدة من عجائبيات (كلي هصبه) أو بلغة الضاد وادي الخيول .

وادي الخيول.. حقا أنه بحر من الحجر والشجر، موانئه تلك الغرف الصخرية المعدودة على أصابع اليد، التي كانت تأوي الأنصار، بأعمدة دخانها الشتوية الباسقة كعلامات تعجب تمتطي سطوح تلك الغرف المرصودة من مختلف العيون، من عين الطير الى الطائرة، ومن عين الدب الى فوهة المدفع. يتمدد وادي الخيول من أعالي متين نازلا حتى تذوب حوافه غير المتناهية عند خواصر (ده شت بروالي بالا). هذا المسطح الأرضي المتمواج كبحر هائج، يسكنه (الكلدوآشوريون) منذ آلاف السنين، الى جانب أخوتهم الكورد. القرى فيه، قرية تلد أخرى، مسكه، كاني ماسي (عين السمكه)، كاني بلاف (عيون الماء المنتشرة)، بازه، والعديد من القرى والبساتين. أما من جهة متين الثانية فان ناحية بامرني المتفاخرة باشجار لوزها وفستقها ورمانها والتين، تستلقي مسترخية بوجه الشمس وهي تضاحك مصيف سرسنك الذي يشبه الصليب بضوئه الليلي الوادع، فيبدو كسطح بحيرة يضربها النسيم فلا يستقرالضوء على مائها.

حين تركب ظهر جبل متين، لا تغريك وعورته بالتفكير، بأن هناك حياة بشرية تكتنف ضلوعه وخواصره، ولكنك كلما تحدرت الى قاعه، تتناهى الى مسامعك أصوات بشرية.. أصوات رجال.. أطفال.. نساء. وعندما تكون عند أقدامه تماما، يفتح وادي الخيول أبوابه لك من خلال صوت متماسك لنصيرة أونصير.. توكي؟ (من تكون؟)، فأذا كان ليلا، فعليك أن ترد بكلمة السر، وأذا كان نهارا، فتعلن عن غرضك ليسمح لك بدخول وادي الخيول، فتتجلى أمام ناظريك تفاصيل المكان..غرقة الطبابة، المطبخ والى جانبه المطعم الذي يتناول الأنصار فيه وجبات طعامهم، تنورالخبز، السجن، الأدارة، صف تعليم القراءة والحساب للأطفال، الحمامات، المحارس، قاعات، المكتبة، اللاسلكي، مخزن التموين، الأعلام. أنها الحياة بكل تفاصيلها وجزئياتها. يأخذك العجب من هذا التنظيم والترتيب، فمذ يوم أستأنس الوادي بهولاء البشر فوق العادة، دبت في أحشاءه حركة غير حركة الضواري وحيوانات الجبل.. دبَّ الأنسان بكل عنفوانه وأصراره، فكانت تلك أولى شهادات وادي الخيول على أول اقتحام للأنصار.. أنصار الحزب الشيوعي العراقي، وهم يرسمون حلم نضالهم على سفوح جبال كوردستان العراق.. وطن حــر وشعب سعيد.

آه وادي الخيول..آه يا(كلي هسبه) الذي شمخ بك الأنصار مثلما شمخت بهم، وهم يسرجون الطرق البعيدة ساعات وساعات كي يقولوا بالمنشور والبندقية أنا هاهنا.. نحمل أحلام الفقراء والبسطاء في قلوبنا.. ولأجل ذلك وضعنا فوق أكفنا شرايين دمانئا لنخيط بها الحلم القرمزي.. لقد كنت وفيا يا وادي الخيول حين أمنا سفوحك السرية رسائل الأهل وجوازات سفرنا المنتهية الصلاحية، وجثامين شهداءنا وموتانا وساق النصير (أبو نصار) التي بترت مرتين بسبب رصاصة في عملية مطار بامرني العسكرية، وهذه ثاني شهاداتك التي تزين الجبين بالألق.. للأنصار في شهادتك يا وادي الخيول عن عملية قضاء مانكيش فخر وفرح. أنت الخل الذي مهد سفوحه كي يقود النصير أبو حازم التنكجي وبمساعدة رفاقه الأنصار المدرعتين التي غنموها من العملية الى أبعد نقطة فيك.. لم تكن للمدرعة من قيمة عسكرية للأنصار، لكنها كانت في ذلك المكان كنصب للأنتصار على الطغيان والدكتاتورية، أنتصار هوامش الحلم وحوافه، فما بالك لو تحقق كامل الحلم.. سيكون لأطفال العراق كل الأقلام الملونة يرسمون بها على تخومه آلاف الشموس والرايات.

أذكر فيك يا وادي الخيول قاعة أكتوبر التي كانت تأوي أحتفالاتنا شتاءا.. كم قصيدة خاطبتنا، وكم جريدة ومنشور قرأنا، وكم نكتة خفيفة وثقيلة سمعنا، وكم أزكمتنا رائحة الجواريب، ثم ألا تذكر شخير النصير (أبو صلاح) الذي لا يتوقف.. نعم .. نعم ذلك الفلاح الكردي الطيب ذو اللحية الكثة، أتذكر كيف كان يتحايل عليه بعض الخبثاء فيوقضوه بحجة أن وقت الصلاة قد حان، فكان يصلي ربما أربع مرات في الليلة الواحدة، وفي الصباح وعند التجمع للفطور، يشكر بكل محبة الذين أيقضوه للصلاة.. آه يا ابا صلاح وانت تداعب البنجبسمار (كلاشنكوف) ببعض أشعار شاعر الثورة واللهب كوران، كأيقونة سماوية تستحق التقديس، تجعل بقية الأنصار يختصرون حكايتهم بجملة كوران: ((أعطني بندقية وصخرة ولفافة تبغ وليحترق العالم)).

أتذكر يا وادي الخيول أحلام النصير (الحجي أبو البابنك)، حين أراد ان يشبعنا اللحم، ذلك المشتهى شبه المستحيل، فجاب القرى ليشتري أرنبة وأرنب، يتكاثران فيستحيلان الى مزرعة أرانب، ولكن بعد ثلاثة شهور، لم يحدث لاهذا ولا ذاك، رغم أنهما كانا يعيشان كأي أرنب وأرنبة، ولما تقصى الحجي بكل همته المستباحة من تعليقات الأنصار الطريفة عن أسباب عدم أنجاب أرانبه، وبمساعدة من صديقه اللدود أبو (عصيمه) أكتشفا أن الأثنين، الأرنبة والأرنب كانا ذكورا.. لاتزال الضحكات الشامتة للأداري ناصر، راعي الأبل في صحراء العراق يرتحل أزيزها من أعطافك يا وادي الخيول الى رحاب القلب، وهي واحدة من شهاداتك عن المضحك حد الدمع الذي كان يؤلف حيواة أولئك البشر المتفانون.. فاتني أن أخبرك أن الحجي قد توفاه الأجل قبل أعوام في ألمانيا، ومن جملة ما ترك الى جانب زوجته وأبنته الصغيرة، مجموعة من الكتب التي تبحث في طب الأعشاب، كتلك التي كان يستدل منها الى أعشابك وزهورك غير المألوفة فتستحيل بخبرته الى مراهم وشراب للعديد من أوجاعنا وأمراضنا.

وعرس النصيرة دروك؟.. نعم من ينسى ذاك يا وادي الخيول، رقص الجميع الى آخر المدى.. نسى الجميع أنهم مطلوبين من الموت المجاني الذي كان يغدقه بلا حساب مجنون الغرس .. هي أيضا واحدة من شهاداتك التي يجب أن يدرك أبعادها الأبناء.

الأحتفاء بشهاداتك يا وادي الخيول عصا نتوكأ عليها حين الحديث عن أسفار الملائكة ومحطات الرحيل والليل الذي أستطال الى صباح نريده أن يكون مديدا، حتى نكمل حكاياتنا بلا ليل ولا شهريار. شهاداتك يا وادي الخيول فريدة، ولكنها ليست الوحيدة، فسوف لن تتوقف شهرزاد من سرد حكايات الليل والنهارللسبعين التي فاتت والحكايا التي ستكون.........