الأصوات كانت وستبقى دائما جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، إنها مكملة للمشهد، و أحياناً يشكّل الصوت المشهد بأكمله. ليس غريباً إذن أن تعجّ ذاكرتنا بالأصوات، و هذه تصحبها صور، فالذاكرة هي صور و روائح ومذاق واصوات، إنها كل حواسنا و أحاسيسنا.
نباح الكلاب يذكرني بمنظر كلب غاضب تلقّانا حين دخلت مفرزتنا في الظلام إحدى القرى الكردية للمبيت فيها بعد سير مضنٍ دام حوالي سبع ساعات، لا أنسى منظر فكيه وهو ينبح متقدماً نحونا تحت ضوء مصابيح اليد التي كنّا نحملها، و أشخاص من القرية يمنعوه من الانقضاض علينا.
هدير الطيران الحربي يذكرني بصورتي و أنا منبطحة على بطني أسمع دقات قلبي المتسارعة، ذراعاي ويداي تطوّقان رأسي ووجهي على الارض، كان ذلك في يوم الضربة الكيمياوية على مقر قاطع بهدينان في زيوة.
صوت النار يضعني عند نار مشتعلة تتطاير منها شرارات في ليلة مظلمة، نار تلتف حولها مجموعة من الأنصار في الجبل، وفي مكان متقدم يقف احدنا يرتعش برداً في ساعة حراسته ينتظر انتهاءها ليذهب لأخذ قسطه من النوم، حينها سيحرك جمرات النار وربما يلقّمها بعض العيدان و قطع خشب وينام قرب تلك النار على أرض عارية، فقط عليجته تحت رأسه وبندقيته في متناول يده.
صوت الماء المتدفق الجارف، أتخيّل فيه الرعب الذي تنطق به عيناي و أنا معلقة في الهواء على ارتفاع من ماء جارٍ ، رغم أنني رأيت من سبقني بالعبور، إذ ترددت أن أكون من اوائل الذين يعبرون النهر، أنا النصيرة الجديدة التي ما زالت في طريق الوصول لقواعد الأنصار. جاء دوري ولا بد لي أن أقطع هذا النهر الذي لا اتذكر إسمه الآن، ربما نهر الهيزل، أجلس على قطعة خشبية تشدني لها حبال وهذه بدورها مربوطة بحبل طويل مثبت طرفيه بقطوع صخرية على جانبي نهر جارف، في منطقة ضيقة من مجراه، ربما بعرض عشرة أمتار أو أضيق، تتأرجح بي هذه الخشبة و حبالها، يتصاعد نبضي أكثر حين أبلغ أعلى إرتفاع في منتصف المسافة حيث جريان الماء في أشده، أتحاشى النظر لكن صوت الماء في اذنيّ كأنه يتدفق في رأسي، مع نبض الرعب في صدغيّ. أحد الرفاق يسحب الحبل لنقلي الى الجهة الاخرى من النهر، و مع كل سحبة يزداد تأرجحي و يزداد معه هلعي، تارة اراقب كل شئ حولي، الماء الجاري بجنون في الاسفل، النقاط المثبت بها الحبل في الصخور، الرفاق الذين يتعاونون على سحب الحبل، توتر الحبل ورخاوته، قديم أم مستهلك، وتارة اخرى أغمض عيني و لا يربطني حينها بالعالم الخارجي سوى صوت الماء المتدفق، يا إلهي هل سأصل سالمة لقواعد الأنصار أم أني سأسقط في هذا السيل الجارف؟! وهنا لا أنسى أبداً أبداً عبور حيوانات الحمل، بغلان عبرا في منطقة قريبة من ذلك "التلفريك" البدائي، الذي كان وسيلتنا في العبور. كانت ترفض العبور وتصارع مجرى الماء وكلما وصلت لمكان جارف تجمح خوفاً مع ثقل حمولتها وتعود، ولكن لا مجال للعودة لها، حيث يقف رفيقان في الطرف الاخر يمنعونها من العودة ويمنعونها من الخروج من النهر كي تعبر الى الجهة الاخرى، منظر هذين الحيوانين لا يمكن ان انساه، يبعث على الشفقة والحزن. حين عبرنا جميعاً قال مسؤول المفرزة علينا مغادرة هذا المكان بسرعة لأسباب أمنية، يبدو انه طريق لم تعتاد مفرزة الطريق على إتباعه، أو انه مكان محفوف بخطر وجود الجندرمة (العسكر) التركية.
صوت وقع الأقدام، معه ترتسم في ذاكرتي صورة مفرزة متكونة من حوالي خمسة عشر نصير، نتوقف في استراحة قصيرة يخبرنا خلالها آمر المفرزة بأننا أثناء النزول من هذه المنطقة سنمر قرب احدى الربايا، علينا ان نلزم الصمت ولا نستعمل الضوء اليدوي. نشرع بنزول الجبل، و لأسباب احترازية في حالة اكتشافها لنا و الرمي علينا، ولكي لا نكون كتلة واحدة تحت مرمى الربية، كان علينا أن نمشي اثنان اثنان تفصلنا مسافات، مسافة تمكننا من متابعة شبح اللذَين يمشيان أمامنا، في ظلام نعتاد عليه بالتدريج. الطريق حجري، حجر ونزول، افكر بصوت وقع أقدامنا والحجر الخشن الذي يتدحرج تحتها، يقلقني ذلك، كيف لاتسمع الربية وقع أقدامنا و صوت حركة الحجر في سكون الليل هذا، كنت أتوقع أن تسلط علينا الربية نيرانها في أي لحظة، لكننا عبرنا بسلام.
صوت الريح ، تذكرني بحراستي المتأخرة في ليالي مظلمة يغيب فيها القمر، مع صوت الريح و فعلها بكل ما هو في الطبيعة، الاشجار واوراقها، يصعب علي أن اميّز أية حركة للبشر في محيط المقر، يعني كيف سأقوم بمهمة الحراسة عندما تنعدم تقريبا أهم حاستين لأداء هذه المهمة، البصر والسمع . هنا أتذكر أول حراسة لي في وقت متأخر في فصيل الاعلام المركزي في پشتاشان، كانت حسبما اذكر بين الساعة الواحدة والثانية في ليلة دامسة الظلام مع مطر غزير وريح شديدة، قالوا لي أن أقف عند جدار أحد الغرف في حالة المطر، وقفت في حراستي تلك محاوِلة أن اميّز إن كان هناك حركة غريبة او صوت ما، الشئ الذي حيرني صوت لم ينقطع و لم أستطع أن اشخّص طبيعته ومصدره بسبب صوت المطر والريح، اتحرك بحدود المكان لكنه لم ينقطع، انتهت الساعة و سلّمت الحراسة الى الرفيق الذي بعدي و و أخبرته ان هناك صوت غريب لم يتوقف طيلة ساعة حراستي، عندما إقتربنا من المكان الذي كنت أقف عنده قال لي وانا أرى ابتسامته العريضة في ضوء المصباح اليدوي ( هذا شخير الرفيق ابو جواد ). في اليوم التالي كان موضوع حراستي نكتة على لسان الفصيل، وانا أول من تحدث عن ذلك و أول الضاحكين.
عودةً للأصوات و تأثيراتها، أتذكر كنّا نهيئ لقراءة أشعار لأمسية شعرية 1987، وكانت في مقاطع من ذلك الشعر الذي سنقرأه مفردات كالريح والماء و غيرها، فذهبنا أنا والرفيق أبوسعد إعلام (من مجموعة إعلام قاطع بهدينان) بالقرب من مجرى حمام الحماية البعيد عن اصوات الرفاق، لتسجيل مؤثرات صوتية ترافق قراءة الشعر، اخذنا معنا مسجل الكاسيت لتسجيل صوت الماء🎤، نملئ وعاء كبير بالماء ونسكبه في المجرى ونحرك الماء بعيدان كبيرة ليغدو صوت ماء جاري متدفق، كررنا العملية ونجحنا بإقتناص المؤثر الصوتي الذي سيرافق قراءة القصيدة، و صوت الريح حصلنا عليه باننا كنّا ننفخ بين كفيّنا بأشكال مختلفة نرفقها مع اصوات توحي بالريح، وحصلنا فعلا على صوت ريح مقنع. جرت الأمسية الشعرية في فصيل الاسناد/ قاطع بهدينان، كان من ضمن المشاركين كما تقول لي ذاكرتي الرفيقان آشتي وابو سعد اعلام وانا (سمر)، وربما آخرون، لا اتذكر بشكل دقيق.
الاصوات تحاكي مشاعرنا شجناً وفرحاً و خوفاً و حنيناً و شوقاً. إنها موسيقى الذاكرة.