بعد ان تمكن من هم بموقع المسؤولية من الانصار، من شراء اكثر من عشرين رأسا من الغنم  الصغير، كان لابد من رعايتها والاهتمام بها حتى تكبر وتكون جاهزة عند الحاجة، خصوصا ايام الشتاء. انّ اغرب مهمة اكلف بها، هي ان اكون راعيا للغنم من الصباح وحتى المساء. ثمة جرس معلق في رقبة الخروف الكبير لتتبعه الباقيات بعد سماع الرنين. لابد من البحث عن اماكن يكثر فيها العشب الطري للتتغذى تلك الحيوانات.

في تلك السهول والمرتفعات، والجبال الشاهقات، احسست باني امثل دور الراعي، شعرت بالمتعة محاولا ان اتقمص الدور باتقان.

ثمة غيوم متفرقة.. اولى زخات المطر.. الشتاء يفتح ابوابه. لابد من اشعال النار لينبعث الدفء في الجسد مع كوب من الشاي اعده بنفسي في ذلك البرد.

لم استصغر ابدا مهمة تكليفي كنصير برعاية الاغنام.. هي بضع ساعات، شعرت فيها بالبهجة، وكانت ساعات حلوة لي اكرسها للتأمل في الطبيعة والألفة معها. هذه شجرة عارية يابسة في خريف العمر. خيل لي انها تنتصب امامي كحصان جامح لا ينقصه سوى الصهيل. هي ليست خدعة بصر، بل هذا ما منحتنا اياه الطبيعة من جمال. صخرة كبيرة جافة وكأنها تفصح عن عمرها الازلي. اي انامل منحتها هذا الملمس الناعم، وصخور صغيرات متفرقات، كانت الصخرة مثل ام فجعت باولادها.

احاور الشجرة بداخلي ككائن حي.

كم كنتِ معطاءة ايتها الشجرة... ثمارٌ طيبة وأوراقٌ خضراء وقد حاصرك خريف العمر وانتِ مازلت عندي تملكين العطاء وانا اجلس تحت ظلك الوارف.

لن اغفل اغنامي التي تلتهم العشب خشية ان تتفرق في الوادي وتضيع احداها.. انا حريص على عدها بعصاي بين الفينة والاخرى.

العدد كامل.. لا يوجد هروب!!.

ثمة سؤال رنّ في ذهني.. ماذا لو ان طائرة هليكوبتر حلقت في السماء، فكيف لي ان اقوم بحماية القطيع!؟.

كانت لي ساعات حلوة آتآلف فيها مع الطبيعة، لا ينقصني سوى صوت (الناي الجميل) فيما تتجمع بعض غيوم في السماء لافكر بالعودة بعد ان اتخمت اغنامي معدتها وارتوت من الماء.

يعلو خيالي بتقمص دور الراعي ليكون فيلما سينمائيا.. يخيل لي باني اقف الان امام كاميرا وانا اهش على غنمي بعصاي.. امنح اغنامي وقتا اخر لتلتقم العشب فيما انامل شجرة مدت اغصانها الى كافة الجوانب.. كانت تبدو لي مثل عدد من المتظاهرين الذين يحملون لافتات الاحتجاج على سوء التغذية.. ايماءات معبرة كانت تبعثها تلك الشجرة الهرمة.

وتعلو فيّ تساؤلات اخرى عن حياة الرعاة.. كم من الوقت يتطلب ان يسير الرعاة على اقدامهم طيلة اليوم..؟ ماذا لو لم يتم العثور على مصدر للماء يروي عطش الحيوانات..؟

كم من المرات وطأت اقدام الرعاة هذه الارض..؟

انهم يقاومون نظام الاستقرار ويتابعون رحلتهم بلا كلل، قد يصادف احيانا ان تكشف الطبيعة المجهولة عن خارطة لكنز مدفون ورغم هذا تستمر رحلتهم مستعينين بكلابهم المدربة على حماية القطعان لتحاشي خطر الحيوانات المفترسة.

خلوة برية جميلة نتعلم منها حياة البساطة والصبر. اخر خيوط الشمس.. ساعة الغروب تقترب.  لابد من العودة الى مقر الفصيل. اخر مهمة لي كانت ادخال الحيوانات الى الزريبة القريبة من المقر واغلاق الباب.

في طريق العودة اتامل صفحة السماء لارى غيمة سوداء كبيرة مثل وحش يفترس اسراب الغيوم الصغيرة. هذه الغيمة حبلى بالوطن.

علي ان اعود وانا اشعر برضا كامل بعد انجاز مهمتي على خير وجه.

فصل من كتاب (( تعال معي الى قنديل ))