في حزيران 1982 لم تطق الجندرمة التركية وجودنا على آخر ثلاثة أمتار من الحدود، فأرسلت رسلها لقيادة قاطع بهدينان بضرورة تركنا نحن وح.د.ك الوادي التأريخي المحصّن "كوماته". كان علينا البحث السريع مرغمين عن مقر آخر بعد سنتين ونصف على معيشتنا في وادي كوماته الذي هدّ بناء قاعاته اكتافنا. إذن لامناص من البدء بعملية البناء المجهدة من جديد. بقينا فترة ننظر بحسرة لملكيتنا العقارية التي يتوجب علينا تركها من غرف ومواقد وحمامات بدائية كعربي يرمق بتحسر أملاك الأندلس التي فقدها.. واأسفاه على المجزرة البيئية التي أرتكبناها لنربح مقراً وها هو المقر ينتقل لأيدي الجندرمة، الصخر الثقيل الذي نقلناه من قمة وسفوح الجبل، و(الجلو والجقل) الذي نزعناه من أمهاته الأشجار الباسقات، الشجر البالغ الذي صلبناه لكي نحصل منه على (الستندات) الثقيلة، لقد شوهنا طوبوغرافيا المكان وعثنا به تخريباً وها نحن نمضي لإعادة فعل ما فعلناه في واد آخر عليه أن يستعد لقدوم (تورداساتنا ومناشرنا)...
في تلك الاثناء حدثت واقعة مؤسفة أدت بآمر فصيل السجن "ابو تحسين" الى ملازمة المستشفى (بعد تعرضه لعارض فيزيائي رداً على تصرف سايكولوجي!)، أي أن الفصيل بقي بلا آمر.. هنا أصر الشهيد "عادل ليبرالي" "علي جبر" على إنتخاب آمر الفصيل المؤقت إنتخاباً، ورشحني "بإعتباري الأكثر ليبرالية والأقرب له" وحلفني أن أقبل، فهذا الحدث سيكون (بادرة ثورية ستدخل الديموقراطية على عملنا العسكري!).. كانت مجموعة الفصيل كلها من أصدقائي القريبين من فنانين أو قريبين من الفن: ابو هيمن، ابو عراق، ابو تراث، ابو صبا، ابو ليلى، وآخرين، إضافة الى "المساجين" الذين كانت علاقتي بهم ودية وليست علاقة سجّان بسجناء.. حتى هذا الحد لم تكن هناك مشكلة، المشكلة بدأت حين كان علي أن أتنطق بمسدس "ابو تحسين" إذ لا يمكن لآمر فصيل أن لايكون مسلحاً . ففي ذلك الوقت، كنت على غير ود مع القيادة التي جردتني من سلاحي بأسلوب دبلوماسي مبطن بدعوى قلة السلاح. كان لابد إذن أن يثير منظر المسدس وأنا أروح وأجيئ من المقر القديم الى الجديد مكتب القوة الذي لم يكن بمقدوره كتمان غضبه فبدأ التساؤل: من أعطى المسدس لهذا؟، قالوا لهم: هذا آمر فصيل مؤقت!،
آمر فصيل ؟ ومن "عيّنه" ؟
ردوا: نحن إنتخبناه!
كان الأمر أشبه بنكتة مغرضة طرف يضحك لسماعها من كل قلبه وآخر يغتاظ منها من كل قلبه، فمن تراه يفكر في ذلك الزمان من بداية الثمانينيات بالإنتخاب؟ وإنتخاب شخص لمهمة عسكرية كما يفترض؟، لكن الشباب الذين إنتخبوني كانوا مطمئنين لسلامة إختيارهم، فانا سوف لن أقود جحافلهم لتحرير بغداد وكل ماكان عليّ فعله كآمر فصيل يافع أن أحمل هموم الإشراف على مجموعة فصيل السجن، ثم تنظيم عملية بناء المقر الجديد وتوجيه (القوى العاملة) والمكونة بالأساس من مجموعة رائعة من شباب العمادية المثقفين الملتحقين للتو إضافة الى "أبو أسمر". لم أكن أعرف " أبو أسمر" من قبل الا من خلال همسة همس بها بأذني أحد أصدقائي من الذين يعرفونه: "طيب ومرح لكنه عصبي.. الى حد بعيد.. دير بالك !".
وبدأ يومي "القيادي" الأول تماماً كما وصفني الفقيد "ابو جنان": آمر فصيل رومانسي، أتعامل مع الملتحقين بالفاظ: "تفضل عزيزي، إذا تسمح ياوردة تنطيني الكرك بلا زحمة، إذا تحس بتعب تفضل إرتاح.. ولايهمك دخن براحتك.." إضافة الى أن تسلسلي التأريخي في الخلافة الذي حلّ بعد "أبو تحسين" قد كشف نعومتي أكثر.
لكن الأغرب من كل هذا كما يبدو، كان وجود ديوان ادونيس "مفرد بصيغة الجمع" في جيب شروالي كنت أنهل منه في الإستراحة، وكان هذا التصرف لايعجب البعض الذي يصرخ: "حتى بالاستراحة تقرأ؟؟؟".
بقي "ابو أسمر" يرمقني أثناء الإستراحة وأثناء العمل بين حين وآخر بنظرات ثاقبة، حارقة لم أعرف لها سبباً أول الأمر رغم أني كنت أعمل كغيري من العاملين مردداً بيني ونفسي: لافضل لآمر فصيل على ملتحق الا بالعمل! لكن "أبو أسمر" بقي يلاحقني بنظرات شرسة ووجهه المحتقن الأحمر يتجه للإنفجار تدريجياً. نقلت مكان عملي بعيداً عنه إتقاء نظراته النارية لكنه لم يكف عن متابعتي قلت لنفسي: أها.. يالي من آمر فصيل غبي ربما شعر "ابو أسمر" بالتعب وانا لم أفطن لذلك فهو كبير بالسن، فقلت له برفق: "رفيق ابو أسمر يمكنك ان ترتاح متى أردت، لاتجهد نفسك" هنا إنفجر بركانه بوجهي:
"أرتاح؟ انت منو حتى يخليني ارتاح؟ منو كلك أني تعبان؟ انت آمر فصيل؟ أمر فصيل (مفردة غير صالحة للنشر) منو سواك آمر فصيل؟ تعال حبيبي.. روح عزيزي.. اكعد عمري.. إرتاح.. (مفردة غير صالحة للنشر).. آمر فصيل.. (مفردة غير صالحة للنشر )!!.
فاجأتني ثورة ابو اسمر غير المبررة والذي كان سببها على مايبدو تعاملي الصداقي اللين مع الملتحقين ومنظري اثناء الإستراحة وأنا أعيش في عوالم "مفرد بصيغة الجمع" تمالكت نفسي وقلت: (سوف لن أرد عليك، سأعتبرك مثل عمي، فأنت تشبه عمي تماماً)، وبدأ شباب العمادية الملتحقون يردون على ثورة "ابو أسمر" بالكردية بعبارات مدافعة قائلين ان لامبرر أبداً للكلام الذي تفوه به وانهم مرتاحون للغاية للعمل معي بدون أوامر ولا تعال. هنا حوصر"أبو أسمر" وصمت، وبعد دقائق بدأ لون وجهه العودة تدريجياً الى اللون الطبيعي.. أعاد النظر اليّ فلم أبادله النظرة، إقترب مني فإبتعدت منه بهدوء. كان واضحاً إحساسه بالأسف خاصة أنني وفقت بإمتصاص ثورته دون رد عنيف.. فجأة رمى الصخرة من يديه وصاح مؤشراً عليّ: والله هذا شخس أني هواي يحبه!" فإنفجر الجميع بالضحك وبدأ "ابو اسمر" يغير من إفادته بمدحي والإشادة بي وتاكيد محبته لي.. لم تطل الحالة كثيراً حتى عاد آمر الفصيل المصاب الى موقعه وكان أول ما بلغني به هو بلاغ القيادة: أن المسدس ليس لأيٍ كان.. فإنتبهت أنني كنت واحداً من "الأيٍ كانات" ولابد لي العودة الى موقعي رغم تلو أمعاء "عادل بهديني" ألماً لفشل (التجربة الديموقراطية).. أما أكثر المتأسفين على " خلعي" والمتضررين منه فهم شباب العمادية الملتحقون الذين فقدوا بغتة جنة "الديموقراطية".