لم أر الثلج يهطل من قبل الا في البقاع الغربي في لبنان. كنت في نوبة الحراسة ليلاً عندما إنداح المشهد الأبيض أمامي، فإنشغلت كليا ًبأحتفالية السماء الشاعرية البديعة ونسيت حراستي! لم أكن أعلم بعد أن مسيرة الثلج بأتجاه الأرض ليست بالرومانتيكية التي تبدو عليها لأول وهلة. الثلج بين السماء والأرض متعة، كائن سماوي خالص، لكنه حين يستقر على الأرض ويتراكم، يتحول الى كائن أرضي مراوغ وخطر، يتحداك عندما يكون هشاً، فعليك أن تعرف كيف تغرز قدمك وتنزعها فلا  ترفعها فتجدها عارية. والأهم من هذا كله أن لا تقترب من الكتل التي تغطي السفوح  مشكْلة ما يشبه المظلات فقد تنهار هذه الكتل الثقيلة فجأة وتنام تحتها الى أن يكتشفوك مجمداً بعد فوات الأوان. وقبل أن يمضي الثلج في رحلته التحولية الأزلية عائداً لأصله ماءً مسالماً، يغريك بالدوس عليه فتكتشف ضعف قدرتك على التحكم بالبقاء واقفاً على قدميك، عجيب هو الماء !

كان الوقت بداية آذار وكانت المسافة بين قرية عين العرب حيث موقعنا،  وخربة روحا حيث مقر إدارة الموقع العسكري، تمر عبر طريق إجباري يتلوى بين وديان محروسة بمدافع حركة فتح والجبهة الديموقراطية، كنا نقطعها بقرابة الساعة مشياً. كنا أربعة، أبو عادل النقابي، أبو مسار، أبو توني القادمون من موسكو ربما، وأنا ذاهبين في إجازة قصيرة لمدينة بيروت. كنت أكثرهم جهلاً بالثلج، فهم عاشروه في أوربا واحتاطوا بالأحذية المقاومة له بينما اراه أنا للمرة الثانية . ونحن بانتظار جاهزية الجيب العسكري، بدأ الثلج يكسو الأسطح والدروب بغزارة غير متوقعة فرفض السائق المغادرة بدافع الخطورة وتحتم علينا العودة مشياً بسرعة قبل أن يحاصرنا الثلج. خطوات، بعد أن غادرنا الموقع وجدنا أنفسنا في متاهة إسمها تحديد طريق العودة..أين هي معالم الدرب؟ كل ما حولنا أبيض، وبدت البيوت القليلة المتناثرة على التلال مهجورة من سكانها إذ لا أثر لحركة ولا لضوء ولا لدخان!  تحت كتل الثلج الناصع إختفت مدافع فتح والديموقراطية، وقرميد البيوت الأحمر، والأشجار،  وتهنا نضرب ساعات في كل الأنحاء بعشوائية دون أن نرى بشراً ولا علامة واحدة تدلنا على وجود بشر. تدريجياً، أحسست بقدميّ ماضيتين للتجمد وقوتي تكاد تنفد فالثلج وصل حدود الركبة مما صعب من عملية المشي. الأصعب من كل ذلك أن حذائي غير الملائم للمشي في الثلج سمح بمرور الماء الذي تجمد داخله وخارجه فتحول الى كتلة جليدية متجمدة متقلصة تضغط على قدميّ بقوة الى أن فقدت الأحساس بهما. لا أتذكر كم ساعة مرت على تيهنا حين  تمكنا من رؤية دخان ينبعث من مدخنة بيت فقررنا طرق الباب كحل لابديل له رغم كوننا غير مسلحين. فزع الشاب اللبناني الذي إستقبلنا من منظر قدمي المتجمدتين :

  • سارع بنزع الحذاء والا فقد تصاب بالغنغرينا عندها لا ينفع سوى البتر!
  • بتر؟ قطع أقدام؟ نحن لم نبدء بعد!

حاول الشاب نزع الحذاء فلم يوفق، ولما عرف هويتنا قال: ذاك هو  موقعكم! لا يبعد سوى قرابة مئتي متراً  عن البيت. قلنا إذن من الأفضل أن نصل الموقع فلدينا هناك طبيب سيتولى معالجة الأمر. في الطريق للباب سألني الشاب:

  • لهجتك ليست فلسطينية صافية ولا لبنانية صافية؟

أجبت وأنا أجر قدمي جراً كالكسيح:

  • انا عراقي! فصاح:
  • عراقي؟ عجيب، من البلد الغني ، النفط، ودجلة والفرات ! ما الذي تفعله هنا في الثلج وسط معمعة القتال والغارات الجوية الاسرائيلية ؟ الفلسطينيون يبحثون عن وطنهم الضائع فما الذي تفعله أنت؟
  • أحاول أن أمنع ضياعه!

لم تكن الحرب مع إيران قد بدأت ، ولم يبد أن الشاب اللبناني قد فهم قصدي، ولم تُقطع قدميّ لكني ورثت من العاصفة خدراً وألماً في قدمي اليسرى رافقني طيلة حياتي.    

في اول اختبار ثلجي بكردستان صعدنا جبل لينك الرهيب في شهر كانون الأول والثلج يهطل..قبل ان نبلغ القمة قلت لابو ادراك: لايعادل هذه المشقة الا اننا ماضون للامساك بصدام من شاربيه وتعليقه على قمة لينك وإعلان نهاية حكمه! أقنعت نفسي بهذه الخرافة كي لاتخذلني ساقاي فكنت أردد كلما هدد جسدي بقرب إستسلامه: اصبر يمعود بعد شويه نعلقه من شاربيه! بعد يوم عرفت اننا في مهمة إستطلاعية لاغير! أتت الأخبار ببتر أصبع قدم أبو جاسم كيشان بعد تجمدها عندما داهمته الجندرمة مع خليل أبو شوارب وهم في مهمة تموين ، بعد أيام أخرى سمعنا ببتر أصابع أبو حازم وبعدها بعام جمدت عاصفة ثلج ظافر السلامي أثناء التحاقه من القاطع لهيركي ففقدناه شهيداً دون ان نلتقيه..وتلفت في نفس الحادثة أقدام أبو شرارة وتضررت اقدام أبو ناتاشا.

وقبل أسبوع أجريت في هولندا ثلاثة فحوصات دقيقة (أم أر أي) بعد موجة آلام حادة في ذات القدم فحكيت للطبيب القصة حملق بوجهي:

 لم أهملتها كل هذه السنين؟

رددت على الحملقة  ببلاهة قائلاً:

أية سنين؟