بعد منتصف عام 1978، تحول ارتباطي الحزبي من منظمة الشعلة الى منظمة سريّة في بغداد، وفي شهر ايلول 1978، تركت بيت العائلة. وفي كانون الثاني 1979 تركت الجامعة، حيث بدأت مرحلة الاختفاء والعمل السري. كنت التقي سرا برفيقي الشهيد محمود عسكر الذي غاب عن حضور اللقاءات الاخيرة بسبب اعتقاله ثم اعدامه لاحقا. في احد اللقاءات، جاء رفيقي المسؤول (الانسان المثقف النبيل) والكدمات تملأ وجهه. تحدث لي بحزن شديد: ((بان الامن اعتقلوه وعذبوه، وطلبوا منه البراءة، فرفض، لكن احد اقاربه في الامن جلب اخوات رفيقه، وهدد باغتصابهن امامه، فرضخ وقدم البراءة). تحولت صلتي برفيق اخر، استطاع ان يجد لي عملا عند احد اقاربه في صناعة الحقائب. وهكذا مرت على اختفائي اكثر من سنة ونصف، وحملة البعث لم تتوقف، بل اصبح الوضع اكثر خطورة، وفي نفس الوقت، بدأت المعلومات تصلني عن تشكيل قوات الانصار.
عندما عرف رفيقي المسؤول بحراجة وضعي في السكن عند اقاربي، اقترح علي الذهاب الى كردستان، فوافقت فورا. كانت له صلة باحدى الرفيقات الكرديات التي سهلت ذهاب الكثير من الرفاق للالتحاق بقواعد الانصار (للاسف المسؤول والرفيقة التي ساعدتنا، تم اعتقالهما لاحقا واختفت اثارهما). وافقت على فكرة الذهاب الى كردستان لسببين: الاول هو: ان لا تكون المواجهة مع النظام من خلال القاء القبض عليّ في مخبأ سري، بل من خلال مواجهة حقيقية ومهما كان الثمن. والثاني: هو: ان لا يتعرض احد من الاهل والاقارب الى ضرر بسببي من خلال العقوبات الجماعية التي برع النظام في ممارستها، بما فيها الاعتداء على شرف النساء.
انتهت سفرتنا من بغداد الى السليمانية ومنها الى قلعة دزه بسلام. دخلنا بيت احد الرفاق في قلعة دزه، وبدانا انا والرفيق الذي معي (ستار) نتعلم اللغة الكردية حالا. بعد مرور ليلتين، نقلونا الى قاعدة (ناوزنك) التي وصلناها بعد ليلة كاملة من المشي. في هذه القاعدة، شعرت بحجم التغيير الذي اواجهه، والصعوبات المحتملة، خاصة وان الوضع النفسي لكثير من الرفاق، كان متوترا، بسبب الطريقة التي ادارت بها قيادة الحزب العلاقة مع السلطة والانتقال الى المعارضة. بدأت امر بنقطة تحول لم اشهد لها مثيلا في حياتي، وبدأ الصراع الداخلي للقبول بالحالة الجديدة والتكيف معها. حالة غريبة لشاب قليل التجربة، ان يكون بعيدا عن الاهل، ولا افق في امكانية اللقاء معهم. كيف ستعاني والدتي وابي الذي ارى دموعه لاول مرة وهو يودعني قبل السفر، واسئلة اخرى كثيرة وصعبة.
لم تمض سوى اشهر على إلتحاقي، حتى بدأت الحرب العراقية الايرانية، ونزلنا في اول مفرزة لنعيش الحياة القتالية الحقيقية بحلاوتها ومرارتها. كانت الانتقادات والمرارات الموجهة الى قيادة الحزب هي السائدة، وما يتبعها من حالات ترك الحركة الانصارية. غير ان العلاقات الحميمية والصداقات الجديدة، والاصرار الذي يمتلكه اكثر الرفاق لمواجهة البعث، جعل من حياتنا في الجبل شيئا نفتخر به، ونطمح الى الانتقال به الى مراحل افضل. وقد جاء قرار قيادة الحزب لاحقا باعتبار الكفاح المسلح كاسلوب رئيسي للنضال، كرد على الانتقادات السياسية التي سادت انذاك.
من اكبر الصعوبات التي واجهتنا، هي اللغة وجغرافية المكان، فبذلنا جهودا استثنائية لتعلم اللغة، غير ان المكان كان صعبا للغاية، لان التنقل بين القرى كان متواصلا، ومن غير الممكن التعرف بسهولة على كل هذه الطرق، خاصة وان المسير يتم ليلا. كما ان الطعام كان احد الصعوبات الكبيرة، فقد تمر اسابيع وطعام المفرزة لا يتعدى الخبز واللبن او البرغل.
ملأت سنوات الانصار جعبتنا بتجربة ثرة، وبقدر ما تركت اثرا ايجابيا في حياتنا خاصة العلاقات الرفاقية الحقيقية، فانها تركت ايضا جروحا لا تندمل، ومعاناة لا تُنسى. التجربة اضافت لنا الكثير في السياسة والفكر والتنظيم، وخلصتنا من المثالية، ووضعتنا في مواجهة الواقع. انها تجربة انسانية عميقة، ولها الفضل الاول بما نحن عليه الان، وستبقى تاريخا نعتز به، ويعتز به ابناؤنا واحفادنا.
*من كتاب ( أيام مفعمة بالحب والأمل )، للنصير الكاتب فيصل الفؤادي