في الثاني من أيلول / 1986 أجـري التحقيق الثاني مع اللاجئين في معسكر خوي من قبـل لجـان أخرى وكانت الأسئلة مشابهة الى اسئلة اللجنة الأولى ولم تطرح اسئلة استفزازية كما حدث في التحقيق الأول ولم يطرح اللاجئين معاناتهم من جديـد لمعرفتهم أن اللجنة ستغادر المعسكر بعد أنتهاء التحقيق.

وفي يوم الثالث من أيلول / 1986 تم تصوير كافة اللاجئين بأجهــزة تصوير شمسية بدائيــة من مخلفات فترة الاربعينات وكانت الصور الناتجة مضحكة للغاية لعدم وضوحها لغرض اكمال ملفات اللاجئين وكان التصوير يعاد عدة مرات لغرض الحصول على الصور المناسبة.

بعـد اســبوع من المعاناة اليوميـة في ( معسكر خوي ) ولعـدم أمكانية المعسكر لأستقبال أعـداد جديدة من اللاجئين تم اتخاذ قرار من السلطات الأيرانية بنقل كافة اللاجئيـن الموجودين في المعسكر الى معسكر آخــر وعلى وجبات.

ففي الساعة العاشرة ليلا" من يـوم العاشر من أيلول / 1986 تـم نقـل اللاجـئين في باصات قديمة متوجهة الى طهران كمرحلة اولى لغرض نقلهم الى معسكر لجوء آخر. أستمرت الرحلة طيلـة الليل وحتى منتصف نهار اليـوم التالي لأكثر من ثلاثة عشرة سـاعة متواصـلة مررنا خلالهـا بعـدة مدن ايرانية من بينهـا مركز مدينة ( خــوي ) ومحافظة ( أروميــة ) ومحافظة ( تبريز ) ومدن صغيرة أخرى، ان قدم الباصات ومقاعدها الضيقة وحرارة الجو والجوع الذي يعاني منه الجميع حول تلك الليلة الى جحيم ولم نتمكن من النوم حتى لساعة واحدة.

وصلنا العاصمة طهران في الساعة الحادية عشرة صباحا من يوم الحادي عشر / 9 / 1986 ، مدينة طهران مدينة عصرية حديثة، الحركة فيها دائمة ونشطة، لا أثر لوجود حرب مع العراق فيها، ولكنها تحمل كل التناقضات من عمارات شاهقة حديثة الى بيوت بائسة فقيرة ومدمرة، مررنا بأحياء عدة أصابتها الصواريخ العراقية وشلت الحياة فيها.

توقفت السيارات أمام مبنى محافظة ( طهران ) لأكثر من ساعتين ونحن نجهل سبب هذا التوقف ووجهتنا التالية وسط حرارة الصيف اللاهبة مما زاد من تعبنا وتوتر أعصابنا وحالنا يقول ( كلها مني أنا بيدي جرحت أيدي ) ولعنة على الساعة التي دخلنا فيها أراضي ايران.

تحركت الباصات مرة اخرى الى جهة مجهولة وأتحذت طريقا" خارجيا" بعيدا" عن العاصمة ولمدة دامت أكثر من ساعتين وبسبب العطش والجوع والأرهاق الذي أصابنا لم يتسنى لنا رؤية الطريق الذي سرنا فيه بشكل جيد حتى توقفت في الساعة الثالثة ظهرا" امام بناء قديم معزول يشبه أبنية قصور العصر العباسي يحتوي على عدة غرف وتعلو كل غرفة قبة على شاكلة قبب المساجد، البناء تأريخي مبني من اللبن ومحاط بالأسلاك الشائكة وتحت حراسة مشددة أيضا" وقيل لنا انه ( معسكر وارمين Varamine ) لللاجئين والذي يقع في الجنوب الشرقي للعاصمة طهران.

أنه يوم الثاني عشر من أيلول / 1986 طلب من الجميع النزول من الباصات تحت الحراسة المشددة بأنتظار ما يخبئه لنا القدر، الساحة الخارجية للمعسكر عبارة عن سـاحة ترابيـة مكشوفـة تخلـوا من الأشجار أو من أي نباتـات خضراء، تجمعنا في هذه الساحة بأنتظار الدخول الى البناء للراحة وتخلصا" من حـرارة الشمس، تم تبليغ الجميع بالبقـاء في الساحة وتحت الشمس لغاية تدوين أسمائهـم وخضوعهـم لعملية تفتيش دقيقة أخرى، لم يتناول الجميع أي طعام منذ مساء يوم أمس، الحـرارة لا تطاق، الجميع عطشى ويبحثـون عن قليل من الماء.

يحتفل الأيرانـيون سنويـا" بمناسبة أستشهـاد الأمام الحسين وأهـل بيته في كربلاء وهم عطشى وترك ذلك لوعة وحـزن في قلوب المحبين والموالين له لقرون عديـدة ولغايـة اليـوم، واليوم أصاب النسيان الحكــومة الأيرانية وتركت اللاجئين العراقيين عطشى في معسكر ( وارمين ) وهم يتذكرون عطش الحسين وأهل بيته في الأراضي الأيرانية وكأن التأريخ يعيد نفسه من جديد.

الأطفال والكبار يضغطون على أدارة المعسكر طلبا" للماء تحت حرارة الشمس المحرقة دون جدوى، فالأدارة من جانبها تطلب التريث من الجميع لغرض الحصول على الماء بالهدوء وتدوين أسمائهم وخضوعهم للتفتيش الدقيق والأعلان عن ما يحملونه معهم وهو تكرار لم تم القيام به في محافظة ( رومية ) و( معسكر خوي ) طيلـة الفترة الماضية، وقف الجميع في طوابير طويلة تحت الشمس اللاهبة وكأنهم محكومين وفي طريقهــم الى الأعدام.

عند المساء وما بعـد السابعة مساء" تم الأنتهاء من تفتيش وتدوين أسماء كافـة اللاجئين وتـم توزيع الجميـع على غرف المبنى، كل عائلة في غرفة أو أكثر وحسب عدد أفراد كل عائلة، يعتبر هذا المبنى أفضل من معسكر خوي نسبيا"، الغرف أكبر ومفروشة بالبسط وباردة نسبيا" لتوفر المراوح السقفية في كل غرفة مع وجـود مبردة ماء كهربائية في وسط الساحة، عند غروب الشمس تم توزيع الطعام على كل العوائل وهو عبارة عن قليل من التمر والخبز واللبن الرائب، المراحيض قذرة كسابقتهـا في معسكر ( خوي ) وهي عامـة ومعزولــة أحدها للرجال وآخـر للنساء..

أما بعد الغروب وأنخفاض درجة الحرارة كنا نقوم بالتجوال في الساحة الخارجية لتنشيط أجسامنا والقيام ببعض الحركات الرياضية وقراءة بعض الكتب المتوفرة في مكتبة المعسكر وهي كتب دينية بالطبع، لا توجد أية وسيلة للتسلية لذلك يلجأ الجميع للنوم المبكر تخلصا" من الفراغ والتفكير الذي يشغل بال الجميع حول المستقبل المجهول.

دامت إقامتنا في هذا البناء أسبوعا" كاملا" متعبا" للنفس وحتى يوم الثامن عشر من / أيلول /عام 1986 حيث بلغنا  بالأنتقال الى معسكر مدينة ( جهرم ) الصحراوي الواقع في الطرف الجنوبي الصحراوي من أيران وهذا ما سوف نتحدث عنه في حلقتنا القادمة.

 

يتبع في الحلقة الخامسة