حينما حمل انصار "مجهولون" صناديق خشب، محكمة الصنع، على ظهور البغال، وجالوا فيها شعاب الجبال والوديان من اجل ايصالها بأمان، كانوا يدركون اهمية هذه الصناديق، ويعرفون انها سلاح جديد يضاف الى اسلحتهم الاخرى. كانت صناديق الخشب هذه غالية عليهم، يحافظون عليها بدقة وعناية، فقد سهروا ليالٍ من اجلها حتى سمعوها تنطق، وتجتاز الاثير. تكشف الحجب، وتدخل البيوت، مخترقة الجبال والوديان. ترفع صوت الشعب، وتحرض الجماهير وتعبئهم لغد افضل. حملوا وسيلة اخرى لتحقيق اهدافهم وتجسيد نضالهم. انها اذاعة صوت الشعب العراقي، "صوت العمال والفلاحين والكادحين والجنود والمثقفين الثوريين"، بشير الخلاص من ليل الفاشية الجاثم.
افتتحت الاذاعة في شهر آذار 1981. هذا الموعد له دلالاته، آذار الربيع والأعياد والمرأة ونوروز، عيد ميلاد الحزب الشيوعي العراقي. الافتتاح مع تفتح الزهور والطبيعة والحياة. احتفلت الاذاعة بهذه الاعياد، وهيأت للاحتفال الكبير بعيد ميلاد الحزب، معلنة ان حزب فهد وسلام عادل، حزب الامل والمستقبل للشعب العراقي بعربه وكرده وأقلياته، لن يخبو ضوءه ولن يمحى أثره، فها هو صوته يعلو، ويستبشر بمقدمه، وخاب ظن من اعلن تصفيته والقضاء عليه بوقت محدد وتاريخ معين.
اصبحت ساعة سماع الاذاعة، محفزا للتعبئة والتحريض والتحريك للجماهير عامة، والأنصار خاصة. ضمت بين برامجها نشاطات وفعاليات ثقافية متنوعة. كانت هذه الفعاليات تحبو، فنمت وتطورت مع تطور الاجهزة والوسائل، ووصول اعداد من المثقفين الذين اختاروا الموقع النضالي المشرف، الاقرب الى نبض الشعب، في ساحة المعركة المباشرة. حملوا السلاح والقلم ليسهموا مع الحزب والحركة الوطنية ضد الارهاب والقمع والفاشية. اختاروا الطريق الصعب بعد ان تركوا الاغراءات والصبوات، والراحة والافياء، وآلوا على انفسهم ان يخوضوا الغمار.
ومع تنوع الوسائل، تنوعت المجالات، وتطورت الحاجات، حيث كانت تصدر صحيفتان بتفاوت، الاولى عاودت الصدور، وهي "ريكاي كوردستان"- طريق كردستان- الناطقة باسم لجنة اقليم كردستان، والثانية جديدة هي "نهج الانصار". والاثنتان تصدران باللغتين العربية والكردية. وقد انتظم صدورهما شهريا بعد ذلك، وحوت صفحاتهما على اوراق ثقافية، ونتاجات ادبية وفنية بأقلام الانصار. قصائد وقصص وإبداعات اخرى. ولحقت الصحيفتين نشرتان، اعلامية وإخبارية. الاولى تنشر النتاجات والتحليلات السياسية والفكرية والثانية تطل على اخبار الوطن والنضال الجماهيري. ولاحقا، اعلن في منطقة بهدينان عن صدور "النصير" التي اصدرت، فيما بعد، ملحقا خاصا بمناسبة عيد الحزب عن الشعر والقصة بأقلام الانصار في بهدينان. وتتوالى الاصدارات والملاحق والنشرات، لاسيما في عام 1982، عام النهوض الجماهيري، والتلاحم الوطني بين فصائل المعارضة الوطنية.
في ربيع عام 1982، تتصاعد الهبة الشعبية، وتتسع نشاطات الانصار والبيشمركه. تهب جماهير قلعة دزة والسليمانية واربيل وغيرها من المدن، وتواكب الاذاعة هذه الهبة، كما تفعل وسائل الاعلام الاخرى لحزبنا والحركة الوطنية ايضا. ويسهم الكتاب والصحفيون والفنانون بقسطهم: ندوات سياسية وفكرية، امسيات شعرية وغنائية، عروض مسرحية، معارض تشكيلية، ومشاريع اخرى. يتجاوب هدير المذيع مع هدير التظاهرات، وتنزل المفارز قرب المتاريس في المدن. توزع المناشير والبيانات وتعلو الهتافات والشعارات.. ويحتدم الجدل والنقاش حول هبة الشعب هذه، طاقتها، حجمها، امكانياتها، ازمة النظام، شراسة قمعه، إرهابه، مؤسساته، وتسخن الندوات واللقاءات والجلسات. ويتسع التفكير في تنشيط العمل الثقافي وتنظيمه: فرقة فنية- مسرحية، تشكيل فصيل للفنانين. الاعداد والتهيئة لتأسيس رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الانصار.
كانت مجموعة من الفنانين الشباب يحملون ادواتهم الفنية التي جلبوها معهم، يغنون ويحيون الاحتفال بالمناسبات. يجتمع حولهم عدد من الانصار ويشاركونهم البهجة. تطورت هذه المجموعة الى فصيل منتظم له برنامج عمل. وفي بهدينان، كان ايضا مسعى اخر لتشكيل فرقة فنية غنائية، واسهامات مسرحية، ونصوص باللغتين العربية والكردية.
ونشطت المفارز الجوالة المتنقلة قرب المدن، ولفترة غير قصيرة، بابتكار المجلة الجوالة بين استراحة وأخرى، بين محطة انتظار ونقطة ترقب، يجتمع المساهمون فيها ويفكرون بموادها، وتجري التكليفات، كل وطاقته وإبداعه، وتتحول الى مجلة مبوبة، مدار نقاش وتثقيف، تحمل اسماء متميزة، فهذه باسم المفرزة مع ذكرى عيد الحزب، واخرى باسم الفصيل، وثالثة باسم النصير، وتبرز فيها كفاءات ومهارات. انها صورة للتحدي، صورة للبديل، صورة للثورة. بين ساعة الواجب، وساعة الحراسة، وساعة قبل النوم، وساعة الانتشار، تومض اشارات، ارهاصات الابداع الثوري في الادب والفن. اقلام شابة واعدة، وطاقات كامنة، ينابيع لإطار اوسع لم يتحدد بعد.
وفي سوران اجتمع عدد من المثقفين في واد تغطيه اشجار الجوز الراسخة الجذور، لتشكيل لجنة تحضيرية لرابطة الكتاب والصحفيين. ضمت اللجنة ممثلة معروفة وفنانا تشيكيليا وشاعرين وصحفيا. وضعت برنامجا لعملها، ولعلاقاتها مع اتحاد الادباء الاكراد، الذي تشكل هو ايضا في تلك المنطقة. دعت اللجنة الى عقد مؤتمر تأسيسي للرابطة، بعد ان وجهت الدعوات، ونسقت مع اللجنة الادارية لاتحاد الادباء الاكراد ومجلته "الكاتب الكردستاني"، واصدرت بيانا تأسيسيا.
وبين الحماس للعمل والظروف القاسية، بين الانطلاقة والاستمرارية، بين الاندفاع والحواجز المختلفة، بين الذين يرون الافاق رحبة، والذين ارتضوا الصخر افقا، تفجرت نشاطات وإبداعات وفعاليات، بمبادرات، او بإسهامات منظمة او ضمن البرامج الموضوعة، فأقيمت معارض فنية، فردية ومشتركة، ونظمت ندوات وأمسيات ادبية، ثقافية عامة، شعرية، قراءات في نصوص عالمية لشعراء المقاومة البواسل، وبين وديان كردستان وجبالها ترددت اسماء اراغون، مايكوفسكي، ناظم حكمت، الجواهري، سعدي يوسف، محمود درويش، القاسم، زياد، وغيرهم من الشعراء، والكتاب والفنانين. وضمن اللقاءات تجري حوارات ونقاشات، حول الادب والثقافة والسياسة، ثقافة الانصار، ام ثقافة للأنصار؟، الادب السياسي ودوره في تحديد مهمات النضال اليومي، كيف تتعامل مع الادب، المسرح، الفنون الاخرى في ظروف النضال الصعبة، في شعاب الجبال، في الوديان، في الغرف الطينية الصخرية، في الكهوف وقسوة الطبيعة، تحت ضوء الفانوس او خطر الهجوم المعادي؟.
اصدرت الفصائل الجديدة (فصيل المدفعية، الدوشكا، وغيرها) نشرات "جدارية"، ووضعت برامج تثقيف اسبوعية. واستمع الانصار الى محاضرات عن النضال الثوري في السلفادور وفيتنام والبوليساريو، عن احداث بولونيا، وتطور القضية الفلسطينية وأحداث بيروت.
والإذاعة ايضا، تضع بين برامجها، برنامجا عن الثقافة الوطنية. والصحافة والإعلام يتطوران ويتسع نشاطهما. اصدارات جديدة، بوسترات. ويحمل النصير الشيوعي مع عتاده وطعامه الاصدارات الجديدة، والكتب، والكراريس، والبوسترات، ليطلع عليها، وليوزع منها الى الجماهير التي يجتمع بها. وتدخل المفارز القرى والقصبات وتتناول مع اهلها الكتب، والإصدارات.. مكتبة جوالة مع المفارز. وتصير الدفاتر المدرسية التي يتبرع بها طلاب المدارس الى المفارز صحفا دورية، تعبق بإرهاصات الابداع، وخلجات النصير، اشواقه وأمانيه.