فى خريف 1979، فى قاعدة (نوزنك) التي وصلنا اليها من (بلبزان)، جمعنا فصيل بغداد الذي كان النصير (ابو زهرة) احد اعضاءه. هادئ، ودود، وينجز واجباته اليومية بهمة ومرح. كان الشهيد مولع بشرب الشاي، سعادته عندما يحصل على قدح اضافي (بعد ان يحن عليه الرفيق الاداري ابو ولاء!)، وتكتمل سعادته حين نترك له الفانوس ليلا، ليرسم على اوراقه التى لاتفارق (عليجته).

النصير معتصم فنان واعد، لم ينهِ الصف الاخير فى معهد الفنون الجميلة عندما اختفى عن انظار البعث، ومن ثم التحق بصفوف الانصار فى (سوران). ينهض مبكرا، يبحث فى المذياع عن اغنية لفيروز، ويقول مازحا: "فيروز هى الملاك الذى يحرسنى". يتكلم عن الفن وعن مشاريعه الفنية، كلما ساعدنا فى الخبز، بشرط ان يحصل على وجبة شاي اضافية!.

عندما نقوم بجمع الحطب استعدادا لفصل الشتاء، كان ابو زهره يمتنع عن قطع الاشجار، ويكتفي بنقلها الى المقر، فيتراءى لي تخطيط الفنان جواد سليم (الشجرة القتيلة)!، الذى جسّد فيه قساوة الانسان ووحشيته. "انا متأكد، ان هذا ما كان يشعر به ابو زهرة".

طلبت ادارة القاعدة من فصيلنا، ارسال نصير لحراسة مخزن صغير بالقرب من المنطقة التى يتواجد فيها المهربون ما بين العراق وايران. المخزن، هو غرفة صغيرة، نصفها محفور فى الجبل، تجمع فيها المواد الغذائية التي نحصل عليها من المهربين قبل توزيعها على الفصائل. بادر الرفيق ابو زهرة بالذهاب للحراسة، بعد ان جهزه الادارى بفانوس وكمية من الشاى والخبز. بعد يوميين من انتهاء مهمته، عاد حاملا معه مجموعة من الرسوم الجميلة (تخطيط بالقلم الجاف)، وموضوعها الشهيد!.

مع بوادر الربيع من عام 1980، شارك الرفيقان ابو زهرة وابو ولاء، مع فصيلي (بتوين) و (بشدر)، بمفرزة مهمتها اعلامية، وتنظيمية فى قلعة دزة، رانية، جوار قرنة، والمجمعات السكنية التي اقامها النظام لسكان القرى الحدودية بعد تهجيرهم وأحراق قراهم. كعادة الانصار، أقمنا حفلة توديع للرفيقين، كانت ليلة جميلة، تخللتها الاغاني المنوعة.

كسب النصير ابو زهرة محبة الاهالي الذين راحوا يتحدثون باعجاب عن وجود بيشمركة عرب مع المفرزة!. يجمع الاطفال حوله، يرسم، ويترك رسوماته لهم. الاهالي يتسابقون على استضافته في بيوتهم!. "كان ابو زهرة يلتهم جمال الطبيعة بعينيه، ويجسده بالقلم، كلما اختفينا فى الجبال المحيطة، كان كطير تحرر من قفصه"، هذا ما قاله رفيقه ابو ولاء.

فى 24 آذار 1980، دخلت المفرزة الى قرية (قزلر)، وبعد قليل، هاجمت طائرات الهليوكوبتر، واعداد كبيرة من الجنود والمرتزقة القرية. دارت معركة حامية استمرت ساعات طويلة، سجل فيها الانصار ملحمة خالدة من سفرهم المجيد. كبدوا السلطة خسائر فادحة، بينما روت  ارض كردستان دماء خمس شهداء من بينهم معتصم عبد الكريم الذى قاتل ببسالة، وجُرح النصير ابو ولاء.

خيم الوجوم، لا نريد ان نصدق استشهاد الرفيق الطيب الوديع. جمعنا رسوماته، خاصة تلك التي تتحدث عن الشهيد.  لقد رثى ابو زهرة نفسه، كأنه شعر بأن زمن الخلود قريبا!.

النصير الشيوعي العدد 41 السنة الرابعة كانون الاول 2025