مرّت ستة أعوام على اندلاع انتفاضة تشرين، التي شكّلت لحظة وعي جماعي غير مسبوقة، كسرت جدار الخوف وفتحت الأفق أمام أجيال جديدة لتدخل الفعل السياسي المباشر. وخلّفت ثقافة احتجاجية رسّخت فكرة أن التغيير ممكن من الشارع. كتبنا كثيراً عن هذه الآثار الإيجابية، غير أن الوقت قد حان لوقفة نقدية: هل ارتقت النتائج إلى مستوى التضحيات؟ أم أن الثورة المضادة كانت الأقدر على إعادة الإمساك بزمام المبادرة؟

الثورة المضادة لم تأتِ من فراغ، فهي الوجه الآخر لكل ثورة. لجأت الطغمة الحاكمة إلى العنف المباشر: الرصاص الحي، الدخانيات، الغازات السامة، الاغتيالات، الخطف والتغييب. كما استخدمت أدوات العنف المعنوي: التخويف، التشويه، إلصاق التهم، وتحريف الأهداف، إضافة إلى ظاهرة الاندساس. غير أن ما يستحق التوقف عنده هو ما سمّته العلوم الاجتماعية "كاسري الإضراب"، أي المشاركون الذين عملوا باسم الانتفاضة، لكن أفعالهم أضعفتها وألحقت الضرر بها.

الثورة المضادة حالة سياسية اجتماعية معقدة، لا تُمارَس في الخفاء، بل داخل السياق الاحتجاجي نفسه. فهي تخاطب الناس بلغة الإصلاح والتغيير، بينما جوهرها معادٍ للتغيير الجذري. إنها نقيض تصوّرات قوى التغيير الحقيقية وأهدافها. وفي كل ثورة تظهر هذه القوى الكابحة، وتزداد خطورتها إذا تمكنت من الإمساك بمفاصل السلطة.

للثورة المضادة وجهان: مؤسساتي ونفسي. المؤسساتي يتمثل بالقوى الأمنية، الإعلام الموجّه، شبكات الفساد ورجال الأعمال الكبار. أما الوجه النفسي فيتمثل باستهداف الروح الثورية، أي الثقة بالنفس وبالشرعية الشعبية. بهذا الاستهداف جُرّدت تشرين من أهم أسلحتها: الإنسان المحتج الذي صنع الانتفاضة وكان قلبها النابض.

تجلّت الثورة المضادة أيضاً في تسويق فكرة أن التغيير ممكن عبر وجوه النظام نفسها. صُدّرت حكومة جديدة وكأنها "المخلّص"، بينما هي نتاج المحاصصة ذاتها، لم تقدّم إصلاحاً حقيقياً، بل راوحت بين مصالح المتنفذين ومطالب المنتفضين. وكانت النتيجة المزيد من الارتباك والتلكؤ والتفريط بآمال الناس.

ومع ذلك، فإن الأسباب التي فجّرت تشرين لم تُعالج، بل إنها باقية وتتفاقم: البطالة، الفقر، انعدام الخدمات، والفساد المستشري. لذلك تبقى احتمالات عودة الحراك قائمة، لكن في شكلٍ ومحتوى جديدين. انتفاضة أخرى قد تولد إذا جرى استيعاب دروس تشرين بعمق، وإعادة تنظيم القوى الاجتماعية والسياسية، ورسم أهداف أوضح وآليات أنجع. القادم سيكون حراكاً اجتماعياً يستند إلى العدالة الاجتماعية.

تشرين لم تُهزم، بل تركت جذوة متقدة في وعي الناس. وما دام المحاصصة والفساد قائمين، فإن عودة الحراك ليست احتمالاً بعيداً، بل وعداً يتشكل في أفق العراق.

النصير الشيوعي العدد 39 السنة الرابعة تشرين الأول 2025