الأب في لعنته الأنيقة
1
أتقن هادي فن التسول منذ صغره، وهو أكبر إخوته، يجلبون لأبيهم وارداً يومياً وفيراً، ويا ويل من لم يجلب ما يجلبه كل يوم.
أصبح أبوهم ملك زمانه، يمتلك ثلاثة بيوت فخمة فضلاً عن سيارة حديثة، ولا يعلم المحيطون به أنه أب مجموعة متسولين ومتسولات عددهم عشرة، فضلاً عن الأم التي يسوقها الأب بسخط وضرب قاسيين، إن لم تخرج للتسول، بعدما رأته ينعم بوارداتها هي وأبنائها، كما تقوم بأشغال البيت جميعها، لأن أباهم فجر كل يوم يعلن نفير نهوضهم للتسول، والعصا تنكب على من يتناوم.
2
تزوج الأب خفية بنتاً صغيرة السن، لا يتجاوز عمرها (15) عاماً، بعد إغراء أهلها بالمال، الذين لا يعرفون ما هو مصدره، وأسكنها أحد البيوت التي يملكها، متغنّجة بالطلبات التي لا تنتهي.
كان يرتدي بذلة غالية الثمن في حفلة زفاف، أصرت عليها العروس وأهلها، كلفته ملايين الدنانير، وهو يدفع مستجيباً صاغراً، فرحاً بعودته من جديد إلى أيام شبابه، حيث "تجديد الفراش" كما نقول بالعامية، كان قد استحم وتعطر بأغلى العطور، لما فاجأته حكة في بطنه، تحرّج وهو الجالس مع العروس وحولها الأهل والأقارب، فقط، بعد أن أفهمهم بأنه لا يريد لامرأته وأولاده أن يعرفوا.
إزداد حرجه من اشتداد الحكة، واستأذن في الذهاب إلى الحمام، وهناك خلع السترة وفتح أزرار القميص ليجد احمرار بطنه، وكأن لهيباً بدأ يستعر فيه.
لم يشعر بالراحة إلا حين طلب إنهاء الحفلة، وذهابه مع العروس إلى المخدع، فخلع ملابسه بسرعة، خجلت العروس واحمرّ وجهها، مستغربة تصرفه بهذه السرعة، ولذلك دارت الأمر، بإعلانها، حسب إملاءات أهلها أنها لن تمارس طقوس الزواج معه إلا بجلب ورقة طلاق زوجته القديمة.
طلاق نكب به أبناءها وبناتها، فهي الحانية عليهم، وإليها المشتكى من قسوة الأب،
الذي لم يبال بالفراغ الذي تركته الأم، بل سارع بتكليف أكبر البنات بلزوم البيت، كي تقوم بكل متطلباته، شكت أنها لا تستطيع، فضربها ضرباً مبرحاً، فاستسلمت وهي الفتاة التي لا يتجاوز عمرها (15) عاماً، لما كلفها به .
أما هادي فبدأ يعي الأمور، متسائلاً.. أين يذهب ما يحصلون عليه من موردٍ وفير، مخمناً مواردهم شهرياً، بعد تيقنه أن وارده هو فقط ، ما بين 25-50 ألف دينار يومياً، إنها ثروة كبيرة.. تمتم مع نفسه، كي لا يسمعه إخوته وأخواته، فالنفاق يتصاهر مع الخوف لكسب رضا الأب، والحصول على تغاضيه عن سهوٍ أو صرفٍ خفي من الدخل اليومي. تراود هادي تلك الأفكار، وهو يمارس تسوله في تقاطع كلية الفنون الجميلة في العاصمة بغداد، ممضياً (12) عاماً في التسول، خرج فيها بهيئات لا تعد ولا تحصى، استعطف فيها عشرات الآلاف من الناس، منهم من يعطف عليه وينقده ومنهم من يقول:
- شاب وصحتك جيدة...
- إذهب وجد عملاً
في ذلك اليوم وهو يتحسّب، توقف أمامه باص صغير بسبب الزحام المروري في ذلك التقاطع مع بدء الدوام الرسمي.
لاح له وجه رجل يتطلع إليه من نافذة الباص فأوقف سلسلة حسباته، وهرع إلى من تبين عليه ملامح المثقف، قد يكون أستاذ كلية، مردداً أيقونة التسول التي يرددها كل يوم، ضحك الرجل وقال له:
- هل تعرف أنك تصلح أن تكون ممثلاً..
سارع في الإجابة:
- أمثّل.. أمثّل.. لكن امنحني الآن مما منحك الله..
ابتسم أيضاً وهو يترجل من الباص موجهاً الكلام إليه:
- واحدة فقط.. فرصة واحدة فقط.. أما أعطيك مالاً أو أجعلك تمثل.. انشده لجواب المخرج.. تدارك هادي نفسه متمتما (شغّل ذكاءك)
لم يفهم المخرج ما قال.. فأسرع هادي:
- أمثل، أمثل أنا أشاهد المسلسلات طول الليل.
وندم على كشف ما يناقض شخصيته كمتسول.. فأجابه:
- ألم أقل إنك ممثل.
فسأله هادي سريعاً:
- ماذا تريد مني الآن؟
فقال الرجل الذي تبين أنه مخرج وأستاذ في كلية الفنون الجميلة
- تعال معي بملابسك هذه إلى كليتنا هذه، التي أمامك
- أنا؟
- نعم.. أنت ذو حظ، ومن ثم نخرج إلى الشارع، لنصورتحقيقاً تلفازياً
عن التسول، وفيه مشاهد تمثيلية، أريدك أن تمثل بعفوية كما تتسول كل يوم
- حاضر أستاذ، سأمثله كما في الواقع.
تفاجأ كادر البرنامج بقدوم المخرج ومعه متسول حقيقي، أوضح لهم باختصار، أنه عثر على لقية ثمينة، تسوّل منه مبلغاً فوجد فيه ما يبحث عنه من تمثيل تلقائي مقنع.
كان الدور المطلوب تمثيله من قبل هادي، يتضمن كلاماً ليس بالغريب عليه، فهو يكرره مئات المرات يومياً بشكل أو بآخر، سأله المخرج:
- هل تقرأ وتكتب؟ فأجابه بالنفي مكملاً:
- أبي أنزلني في الشارع، وعمري (5) سنوات، قال لي الشارع مدرسة الحياة، منه تستطيع أن تأكل وتشرب وتنام، في بيتي، غير ذلك ستجوع وتعطش وتعرى وتنام في العراء.
تأثر المخرج لذلك، فقال له بحنو:
- إن أفهمتك ما عليك أن تقوله، هل ستردده بدون أن تنسى؟
قال:
- طبعاً
أفهمه المخرج ما يلي:
- باص سيقف في تقاطع، وهناك ممثل ينظر من النافذة المفتوحة إليك وأنت قادم كي تتسول من ركابه، تتوقف أولاً أمامه وتطلب منه مالاً، فيقول لك: لا أعرف هل أنت صادق أم كاذب، وأنا في الوقت نفسه لا أملك إلا القليل، مصروف جيب، ولكن أعطيك كتاباً اشتريته بثلاثة آلاف دينار.
إقرأه ستجد عالماً آخر، وبعد أن تنتهي منه بعه بألف دينار، مثلاً، وبذلك استفدت منه مرتين، بدورك أنت تلقي نظرة على الكتاب، وترميه عليه قائلاً: هذا الكتاب لا يؤكلنا خبزاً..
- حاضر.. أجاب هادي
أعطى المخرج الأوامر لبدء التصوير، بدت الأمور كما شرح المخرج، لكن هادي خرج عن النص حين شكر الممثل– الكهل الذي قدم له الكتاب، ودعا أن يكثر من أمثاله، لم يوقف المخرج التصوير وسط استغراب الكادر، والممثل الشيخ الذي بهت لا يعرف ماذا يقول، لكن هادي واصل خروجه عن النص، بالقول:
- أريد أن أقرأ وأكتب، كي أعرف لماذا أبي يريدني جاهلاً طول الحياة..
فاستحسن المخرج وبعض ممن معه ذلك، عادين إياه خروجاً عن المألوف، في أجوبة المتسولين حينما يمنحهم أحد شيئاً آخر بدلاً من النقود.
وبينما كان المخرج يستفسر عن سبب خروجه عما اتفق عليه، صمت قليلاً ليسترجع ذكرى مر عليها (11) عاماً حين طلب من والده، وهو قد بلغ السادسة من العمر أن يذهب للمدرسة. زمجر الأب، وهرع إلى مكان السوط، وبدأ بجلد طفله الذي لم يرتكب إثماً سوى طلبه الالتحاق بالمدرسة أسوة بمن هم في سنه، أولاد وبنات الجيران.
كظم استرجاعه هكذا وقال:
- القراءة والكتابة حلوة. وسأتعلم حتماً.
تعجب المخرج من إصراره، قائلاً له: اتصلْ بي على الرقم الموجود في هذا الكارت، ستعمل معي حيثما أجد أدواراً مناسبة لك.
3
تسلّم مبلغ من عمل مميز كالتمثيل كان انقلاباً في حياته، سينطلق منه في إحداث العصيان على أبيه جراء ظلمه واستغلاله لأمه المضحية ولإخوته وأخواته. خير ما يفعله الآن الهروب من عيون أبيه البوليسية، فقد افتقده وأخذ يبحث عنه، ولام كل إخوته وأخواته لأنهم غفلوا عنه، بل أشبعهم ضرباً في تلك الليلة، التي لم يبت فيها أخوهم الكبير معهم في البيت
انطلق هادي يبحث عن أمه، محاولاً تذكر عنوانها، حيث تسكن بيتاً متهالكاً في منطقة شعبية تدعى" الكبر وأم الغزلان"، عبارة عن غرفة واحدة تستخدم لكل شيء مع حمام صغير، استأجرتها ب 75 ألف دينار، وتستجدي في سوق شعبي قريب لمنطقة سكناها. وجدها بالتنقل من منطقة لأخرى، والغروب أفرد أجنحته الكئيبة على الأفق. تعرفت عليه بعد فراق سنين بينهما. احتضنته والدموع تنهمر كشلال، كفكفها، وهو الآخر سالت دموعه فسارعت إلى تجفيفها بفوطتها، جلسا يتنادمان عن أخبارهما وأخبار أبنائها وبناتها وسطوة الأب الظالم عليهم.
وحكى لها مستجداته الأخيرة، ففرحت، باسطاً لأمه خطواته المقبلة، وتتمحور حول البحث عن عمل شريف، وتعلًم القراءة والكتابة، عزمت على مساعدته في البحث عن عمل.
توسطت لابنها عند صاحب مقهى، يعرف عنها أنها صادقة الحاجة وليست محتالة، كما بعض المتسولين والمتسولات. وجه له مهام عمله بتزويد طلبات الزبائن من المشروبات الغازية والعصائر وقناني الماء وإخلاء الموائد من العلب والقناني الفارغة، من السادسة صباحاً إلى الثامنة مساءً، مقابل أجر أسبوعي قدره 35 ألف دينار، ابتأس للأجر الزهيد، وتبادل مع أمه النظرات، ففهم صاحب المقهى المغزى:
- هل هو قليل، أرنا همتك في العمل ولن نقصر معك.
فرضي الابن وأمه بهذا القول، واعتبره تحدياً له في النجاح بعمل جديد...مفكراً؛ (إن هي إلا مسألة وقت سأشتري بما أحصل عليه ملابس وحذاء ما يلزم كهندام ممثل)، أيقظه صاحب المقهى من شروده:
- أين ذهبت. هل موافق..
فأجابه بنعم.
وكانت أمه قد طلبت من بيوت الجوار ملابس عمل متواضعة، دفعت مقابلها دقيقاً وسكر، عندها تذكر السحن السمر لإخوته وأخواته، جراء التعرض لأشعة الشمس من الصباح إلى المساء، (كم أنت ظالم وشرير يا من عنوانك أبي).
استودعته أمه لتعود إلى البيت، ونقدها خمسة آلاف دينار من مكافأة التمثيل:
- اشتري بها كلها ما يلزم كطعامٍ وشرابٍ لنا.
مضت تتحسّب: (انه أول يوم منذ زواجي وطلاقي من هذا الزوج والأب العديم الرحمة، أكون فيه حرة من التسول، أول يوم، أجلس في بيتي البائس حقاً، ماذا لو أطرح على هادي أن أعمل عملاً معيناً، مثلا أبيع الخضرة أو بعض الحاجيات، لا، سيرفض أيضاً، انه ابن كريم، سيصل بنا أنا وأبنائي إلى بر الرزق الحلال والأمان).
باشر هادي عمله برغبة عارمة لتنظيف عفن حياته السابقة، وشعر أنه مازال لم يتجاوز سن المراهقة، وأن الفرص المتاحة أمامه تبدو كبيرة، يفكر بصوت داخلي ( التمثيل، تعلم القراءة والكتابة، الانتقام من الأب الظالم. ثالوث أولوياتي).
عند خلو المقهى من الزبائن وقت الظهيرة، يعود يفكر في سبل تنفيذ تلك الأولويات، مثلاً شراء جهاز موبايل قليل الكلفة مع خط كي يستطيع الاتصال مع المخرج.
وذلك الأمر يستطيع ترتيبه مع تسلم أول أجر أسبوعي له، أما القراءة والكتابة فكيف يمكن له تعلمهما، تناقش في الأمر مع أمه عند عودته مساءً، بعد أن تناولا ما توفر من طعام، فسألها:
- هل من سبيل لذلك؟
فتسارعت لها فكرة أن تلميذاً مجتهداً في الصف السادس ابتدائي من أبناء جيرانها، ولكنهم معوزون، قالت:
- بإمكانه أن يعلمك مقابل أجر يفيده كمصروف يومي له. رحب بالفكرة، خرجت الأم مسرعة إلى عائلة التلميذ، الذين استفهموا عن أجر ابنهم.
- ألف دينار لساعة واحدة في اليوم من التاسعة إلى العاشرة ليلاً.. أجابتهم.
اقتنعوا بذلك، تقديراً لها وحسن جيرتها وعوزها، مثلما هم أيضاً.
كان ثامر التلميذ المجد، لم ينم ليلته التي سبقت ليلة الإيذان ببدء التعليم، إذ عدّ نفسه معلماً وهو لما يزل تلميذاً في الابتدائية،
وقررا معاً هو وهادي أن يكون منهاجهما الخاص بالأول ابتدائي، أحضر كتاب القراءة الخاص بهذا الصف، بحيث يكمل الكتاب أجمعه من دون الدروس الأخرى، واشترى هادي دفتراً للإملاء وآخر لكتابة الدروس، أولاً بأول، كل يوم درس، كان يحرز تقدماً، محركه العزم على الانتقام من أبيه انتقام العارف.
4
لفت انتباه هادي ظهوره، على شاشة إحدى الفضائيات في مشهد التسول، كما انتبه لذلك صاحب المقهى وبعض رواده.
ما جعله ينظر للأمر من زاوية أخرى، بأنه أصبح ممثلاً، ربما أيضا شاهده أبوه، أو إن الإخوة والأخوات أيضا شاهدوه ونبهوا أباهم إلى ذلك، ذلك الذي لم يقطع أمل العثور عليه وسومه أشد العذاب، كي يكون عبرة لهم، كي لا يفكروا بالهرب من الجحيم الأبوي.
الأب الذي كان يعتقد أن حياته تصبح أكثر هناءً إن كاثر في فترة وجيزة عدد زيجاته من حسناوات صغيرات إلى ثلاث.
بدا الأب شخصية كارتونية، يزداد قلقه من التهاب جسده، لكنه يطمئن نفسه بأن ذلك أمر مؤقت لأنه لم يعتد الأناقة والفخفخة والأكل الدسم، فمضى يسلم زمام ثروته إلى حسناواته الصغيرات في ثلاث من بيوته الضخمة، وخلفهن عائلاتهن، التي تقود زوجاته نحو مزيد من استنزاف ثروة رجل يحيط مصدرها الغموض.
في البيت المتواضع الذي حرص فيه أبوهم على عدم تجديده، وترك جوانب منه تتهدم، والأعطال فيه تترك ولا تعالج، تظاهراً بالفقر، شاهدوا أخاهم ممثلاً، فكانت صيحتهم تكاد تكون واحدة:
- هذا هادي، هذا أخونا.. أصبح مشهوراً.
لقد حرص أبوهم على شراء جهاز تلفزيون مناسب، كي يلهيهم في الليل عن مشاغباتهم وعراكهم، كما حرص بعد هروب ابنه الكبير على إشباع بطونهم، كي لا يهرب آخر منهم أو أخرى منهن.
لا يعرف هادي وإخوته وأخواته أن أباهم ممثل أيضاً، يؤدي أدواراً مختلفة في اليوم الواحد، مرة دور حامي المتسولين، حيث يرقبهم عن بعد، ويقترب بسرعة حينما تحدث أي مشكلة مع أي واحد منهم، ومن ثم يختفي عن أنظارهم، ليخرج بزيٍ أنيق، يتبختر في مشيته، لا أنفة وتعالياً فحسب، بل لأنه كلما تأنق، يتفادى حكةً واحمراراً امتدا من منطقة البطن، إلى بقية أجزاء جسمه، يكابر أن تمتد إحدى يديه إلى منطقة الحكة، فيحاول ضبط إيقاع مشيته ويداه ممدودتان باستقامةٍ إلى أسفل.
وحين يستقل سيارته الحديثة المركونة في أحد كراجات بيوته، يبدأ بنهش سريع لجسده بيديه، ولكنه كلما ازداد نهشه، استعر جسده لهيباً.
وحين يعود ثانية، بزي رث، إلى الرقابة على أبنائه لعدم ثقته حتى بالابن الذي يصغر هادي بالعمر بسنة واحدة، المعجب بأبيه ويريد أن يكون مشرفاً عليهم من بعده. حين يعود إلى رثاثته، تختفي الحكة، يشعر بالراحة، يخفت اللهيب ويختفي الاحمرار..
ويعود إلى التهامس مع ابنه عبد، كي ينقل له ما يتحدث إخوته وأخواته عنه، فضلاً عن معرفة أخبار هادي من خلالهم، فبات أبوه يكافئه بمصروف يومي أعلى منهم، فنقل له عبد، خبر أن هادي خرج يمثل في إحدى القنوات الفضائية، وتخابث حين حذر أباه من أن البقية قد يسلكون طريق أخيهم الهارب، لأنه أخوهم الكبير ويحبونه.
وفي الليلة ذاتها، اجتمع معهم بعد وجبة عشاء دسمة جاهزة من مطعم معروف في بغداد، ومع تناول المشروبات والمرطبات حذرهم من سلوك طريق أخيهم، وأن ما مثله مجرد مشهد لا أكثر ولا أقل يعطونه لقاءه مبلغاً بسيطاً. لكن ابنته سماح، التي تصغر كبرى بناته بعام واحد أي عمرها 14 عاماً شردت بعيداً وحسدت أخاها هادي على أنه أصبح ممثلاً. عزمت في سريرتها على التمرد والهرب من سجن أبيها.
قرر الذهاب إلى طبيب أخصائي بالأمراض الجلدية، الذي كشف عنه وهو مرتدٍ أي الأب، أزياء أنيقة، فدهش الطبيب للانتفاخات الحمر في سائر أعضاء جسمه، موبخاً إياه نتيجة تماهله عن حالته هذه. ومتسائلاً عن أسبابها.
كان الأب يعرف السبب لكنه يخشى التصريح لأن في ذلك انكشافاً له، واقتصر الأب على القول، إنها حالة تشتد وتختفي، ووصف له مراهم فقط، عاجزاً عن تشخيص حالته الغريبة، لأنه إن كان جرباً، فالجرب يصيب الأطفال، وليس كبار السن، كما شرح له الطبيب:
- حالتك استثنائية، لا بد أن لها أسباباً أخرى، وتلك مشكلتك، صارحنا نساعدك.
تجاهل كلام الطبيب، مكتفياً بالمراهم وانصرف خارجاً . أخذ يكلف ابنته القائمة بأعمال البيت بالتدليك بأحد هذه المراهم على أجزاء من جسده، وهو حينذاك ارتدى ملابس رثة وغير جديدة، حينذاك يكون الاحمرار والانتفاخ قد اختفيا، وبذا لن تكون هناك فاعلية لهذه المراهم.
حين يكون في أحد بيوت زوجاته الثلاث، يهرع إلى الحمام الفاره، ويبقى تحت الدوش لساعات، ما يجعل الزوجة المعنية نافدة الصبر من هذا التصرف وتعده شذوذاً، لاسيما أن رغباته العاطفية بدأت بالخفوت مع اشتداد انتفاخه الجسدي. ومن هنا بدأت المشاكل المفتعلة وغير المفتعلة تطفو على السطح.
7
كانت الساعة المقررة مع ثامر، يعقبها هادي بساعتين يعلّم نفسه ويقوّي خطه ويقرأ بصوت عالٍ، بعد شهر، بدأ بقراءة القصص المصورة التي اقتناها من شارع المتنبي، يقرؤها بنهمٍ ويعيد كتابتها في دفتر خاص.
ومن محاسن الصدف أن يلتقي هادي المخرج في إحدى زياراته لهذا الشارع، وهو بهندام جيد، بعد أن دأب على عمله في المقهى، وكانت حصيلة الشهر الأول أكثر من 140 ألف دينار. تصافحا بحرارة، وسأله المخرج عن أحواله.
حكى له مستجداتٍ فرح المخرج كثيراً بها، قائلاً له:
- أفكر أن أسند لك دوراً في مسلسل تظهر فيه بثلاثة مشاهد، ويعرض في رمضان، لكن على شرط أن تجيد قراءة الدور وحفظه، فأجابه بإصرار: - سأسهر للصباح كل يوم حتى أحفظه..صدقني
فقال له المخرج:
- بعد يوم غد الأحد، تمر عليَ في كلية الفنون، حتى أعطيك سيناريو المسلسل، محدداً فيه المشاهد التي تحفظها بخطٍ أحمر.
هجس هادي أن تقاطع كلية الفنون الجميلة مراقب من قبل أبيه، ومن قبل عبد تابع أبيه، إذاً ماذا يفعل لكي يجعل اللقاء بالمخرج ناجزاً؟ ليس عليه سوى أن يغير بعض ملامحه، فصبغ شعره ولحيته وشاربيه اللذين تناما في فترة قصيرة نتيجة حلاقتهما يومياً، واشترى نظارة سوداء وارتدى بنطلون جينز وتي شيرت غريب الشكل من بالة ساحة الطيران.
لم يكن يخطط للقاء فحسب، بل يريد أن يسحب أحد إخوته أو إحدى أخواته معه، لكي يحرق قلب أبيه، ويكبده خسارة أخرى، بعد أن خسر بهروبه هو مورداً جيداً. تم اللقاء بنجاح وأوصاه المخرج أن ينجح في دوره الجديد، ضمن عصابة تنتقم من الأغنياء، ووقع معه ما سماه عقداً بمبلغ 250 ألف دينار عن هذا الدور، ففرح لكنه مع ذلك لا يستطيع الاستغناء عن عمله في المقهى، كل ما سيطلبه من صاحبه أن يأخذ إجازة أثناء التصوير حتى لو يقتطعها من أجره الأسبوعي.
اهتدى في ذاكرته إلى أن أخته سماح ثاني كبرى البنات أقربهن للنفور من الأب ومن حالتهم التعيسة، حين اقترب من التقاطع قادماً من الوزيرية رآها قريبة من كلية التربية الرياضية للبنات، تتسول من المارة وأصحاب المركبات المارقة هناك، حين دنا منها همس باسمها، عرفت صوته، قال لها:
- أنا سأسرع في الهرولة في الفرع المقابل، وأنت تلحقينني، ولكن إمشي ببطء، وأنت تتسولين، خذي هذا ألف دينار، اجعلي حركتك طبيعية. مشى مسرعاً، عبرت هي إلى الجانب الآخر مستمرة بالتسول ثم دخلت الفرع ذاته، ولما كان الفرع مغلقاً بالحواجز الكونكريتية، لمنع دخول السيارات في فرع عمقه بيوت سكنية، لإجراءات أمنية، افتعلت التسول من راكب دراجةٍ ناريةٍ دخل الفرع، ولما همّ بنقدها مبلغاً وهو لا يزال يسير، تكون سماح قطعت أمتاراً عدة وهي تهرول معه، بحيث غابت عن الراصد لها من بعيد. اندهش هادي من حركتها الذكية واقترب منها مسرعاً. وصادف أن سيارة أجرة كانت واقفة داخل الفرع، تستطيع المروق إلى عمقه، وليس الانعطاف إلى الشارع الرئيس، بسبب الحواجز، فأوقفه هادي، وقال له إلى منطقة أم الكبر والغزلان.
- ولكنها بعيدة جداً.. ردّ عليه
فأجابه :- كم تأمر، أنا حاضر .
استقل السيارة رغم الأجر المرتفع كي لا يلحق بهما أبوه، أو أخوه الذي أصبح يسميه عبد السركال، تندراً، وهو اللقب الذي يطلق على وكيل الإقطاعي في الريف العراقي في القرن الماضي. ألقى نظرة على أخته بعد انطلاق السيارة إلى المنطقة المنشودة عبر فروع منطقة الوزيرية، ومنها يجد مخرجاً للابتعاد عن المنطقة كلها، السائق الشاب الذي استغرب أمرهما.. شاب مهندم وبنت متسولة، دقق في الشبه بينهما فهدأت أساريره، ومع ذلك سأل هادي:
- هل هي قريبتك؟
فرد عليه: ألا ترى الشبه بيننا، إنها أختي وليست مختطفة، كما سارت بك الظنون
- عفواً
- إذن لا تتدخل كثيراً، أمي تريد أن ترى ابنتها، قدْ بسرعة
فقال الشاب بارتياح:- حاضر.
فرحت سماح لما حدث اليوم وستلتقي أمها. وشردت ثانية نحو مستقبل جميل ينتظرها بعد أن تحررت من سلطة أبيها واستغلاله، ومثل أخيها، فكرت بتعلم القراءة والكتابة، والحصول على شهادة، ومن ثم وظيفة، فهي تحب أن تكون معلمة، تعلّم الأجيال، لأنها ذاقت الحرمان والأمية والاضطهاد، لذا تريد أن تعلّم مستقبلاً، كل شبيه بظروفها التعيسة ذاتها.
7
مُسَّ عقل الأب حين علم من ابنه عبد السركال بهروب سماح، فأشبعه رفساً بوصفه الراعي بعد أبيه على كل حركات إخوته وأخواته. هذا العقاب كانت ردود أفعاله لدى البقية تتراوح بين التشفي والتأسي، تشفٍ لأن عبد ينقل لأبيه كل تصرف منهم ومنهن، لا يرتاح له أبوه، وتأسٍ لأنه أخوهم مهما يكن الأمر. شدّد الأب على عبد
السركال بلزوم أن يجد مكان أخيه هادي، لأنه لابد هو الذي ساعد سماح على الهروب.
حين تركهم ذاهباً إلى بيوت زوجاته، شرع باستبدال ملابسه الرثة بالأنيقة. عملية الاستبدال، استأجر من أجلها شقة في عمارة تسمح بسكن العزاب، في مكان بعيد عن تسول أبنائه، وحين يسأل عن قبل أحد من الجيران عن عمله، يجيب بأنه يعمل مع مقاول بيوت، وأن عليه الإشراف مقابل راتب شهري، وهو وحيد، لذلك يأكل جيداً ويتأنق، ويذهب للسهر مع أصحابه. ولكنه لا يطيل النقاش مع الجيران أبداً.
حار ماذا يلبس، فكل بذلة يرتديها، يشعر أنها بذلة نارية. وفوق ذلك المرض الغريب، ينهشه شعور أن سلطته على أولاده بدأت تتقوّض، وأن زوجاته بدأن يسهمن في مضاعفة مشاكله، لاسيما بعد أن اشترطن عليه أن يكتب ملكية البيوت التي يسكنّ فيها بأسمائهن، وكان متردداً في التفريط بهن لأن كل واحدة منهن تتمتع بجمال آسر، ماعدا واحدة لم يكتب البيت باسمها، فهو لم يرتح لها كثيراً، فقد كان يشك بخيانتها له، وبأسلوب مكشوف، وتحرجه صراحة ببروده الجسدي واتهامه بأنه مصاب بالجرب، في سبيل أن يضطر إلى تطليقها ودفع المؤخر وقدره 25 مليون دينار، ومن ثم أصيب بنكبة أخرى فبعد إن فرغ البيت من تلك التي أصبحت مطلقة، ليومين فقط، فحين كان عائداً فجراً من السهر مع شلته، الذين تعارفوا عليه على أنه مقاول، كي ينام سويعات في هذا البيت بمفرده، لطم على رأسه حين وجد البيت مسروقاً، ففيه نقود مخبأة لا تعرف بمخبئها إلا طليقته، فوجه أصابع الاتهام إليها.
الأب قرر في دخيلته، وهو ناهش الجسد، عدم إبلاغ الشرطة، لأن في ذلك فتح باب، لن ينغلق أبداً، لاسيما أنه راجع أكثر من مركز للشرطة، بسبب أبنائه حين يُحتجزون، ضمن حملات حكومية، تطلق بين فترة وأخرى لمطاردة المتسولين، أو بسبب مشاجرة بين أبنائه وبناته مع متسولين آخرين، على مناطق نفوذ كل مجموعة من المتسولين بحسب أهمية التقاطعات الرئيسة في بغداد، التي تشهد دائما زخماً مرورياً.
طليقته على دراية بالأعمال المشبوهة لاثنين من أخوتها مع ثلة من أصدقائهم، عصابة لصوص، وستصبح سبباً في انهيار الأب مالياً واجتماعياً وانكشافه للناس، على حقيقته. هذه العصابة أثلج صدرها أنه لم يقم بتبليغ الشرطة، ولكن طليقته
نبهتهم: لا تفرحوا فقط، بل ابحثوا عن السبب.
عبارة أذهبت كل واحد منهم بعيداً، أحدهم قال: لا بد أنه زبون سجون، ولذا لا يتورط بالتبليغ خوفاً من كشف مستور لا نعرفه نحن أيضاً. ليسوا هم الوحيدين، من بات يراقب حركاته، بل هادي أيضاً، الذي انهمك في تصوير ثلاثة مشاهد، مغزاها الانتقام من أب ظالم، لكن المسلسل برمته يحمل دلالات رمزية، تتمثل في كيفية تقويض سلطات الآباء الطغاة. تأثر هادي بأجواء المسلسل البوليسية، ومنحته انتباهة أن المشاهد التي مثلها في انتقام من أب شرير هو أبوه في المسلسل، تصب في مسرى انتقامه من أبيه الحقيقي .عرف من خلال الممثلين أثناء أحاديثهم أن تلك الحالة تسمى الاندماج في الدور، فمثلما كان يراقب حركات أبيه في المسلسل، أخذ يراقب أباه الحقيقي، فاكتشف ذهابه ليلاً إلى دور فخمة تعجب من أبهتها وتصميماتها الراقية ومساحاتها الكبيرة، وفي مناطق راقية في بغداد، فلسطين، زيونة، المنصور، ثلاثة بيوت، كلما شاهد دخوله أحداً منها توهجت رغبة الانتقام لديه. لكن عصابة اللصوص احتسبت مراقبة هادي لأبيه، منافساً يمثل عيون عصابة أخرى. في وقت حرج، تراقب فيه العصابة تحركات الأب وهو يبيع الدار المسروقة بمقتنياتها الباقية. لذا تحركت مركبتان مهمة إحداها خطف هادي ووضعه في مؤخرة السيارة بعد تكميم فمه وتقييد يديه وقدميه. .
والأخرى تقوم باعتراض الأب بعد أن يتسلم ثمن الدار المباعة من قبل أحد مكاتب العقار في شارع فلسطين حيث تقع تلك الدار. اعترضوه في أحد الشوارع الفرعية القريبة من المكتب الذي خرج منه متحذراً، أشهروا أسلحتهم، أحدهم أمره: أخرج ما عندك، وكان في حقيبة سوداء وضعها الأب تحت قدميه، وقال: - ليس لدي شيء.
سلطوا أضواء هواتفهم الجوالة على مقعد السائق خاصة، عثروا على الحقيبة وسرقوها وانطلقوا هاربين، حقيبة تساوي 750 مليون دينار، أما هادي فقد قاده المكلفون باختطافه إلى مكان لا يعرفه، لأنهم أعصبوا عينيه، وأدخلوا السيارة في بيت يعود لأحدهم، تبين أنه شقيق طليقة الأب، أما شقيقها الثاني فهو الذي خطط لعملية السرقة بنجاح.
وبعد ساعة قضوها في شوارع بغداد لتمويه الأثر، وصلوا إلى البيت المعني ذاته، وجلسوا في صالة الطابق الأول كي يأخذوا قسطاً من الراحة ،
ويخبئوا الأموال المسروقة في مكان أمين، ليقرروا تالياً ماذا يفعلون بالمخطوف،
أحدهم أشار بقتله، آخر قال انه كان يتعقب الأب المسروق لا يتعقبنا نحن، واختطافه كان لأجل انسياب العملية وهي تمت بخير، فمن الأفضل إطلاق سراحه في طريق خارجي ليلاً قبل أن ينبلج الفجر، لكن الأخ الكبير صاح بهم: - ما بكم تتفوهون الآراء الساذجة، نحن مهنتنا الفضول، به نكتشف ما ستكون عليه خطواتنا المقبلة، لذا فأنني أأمر أختي بأن توصل طعاماً وشراباً له، وتستدرجه في الكلام وتفهمه ما ستكون عاقبته لو رفض.
فقالت أخته:
- سمعاً وطاعة، ولكن لا تنسوا حصتي في العملية
وخرجت من دون أن يعلق أخوها على ما قالته، بل أمر أخاه الأصغر بمرافقتها وحماية أخته.
وفيما كانت أم هادي وأخته سماح بدأتا تقلقان عليه، فقد تأخر عن موعد مجيئه إلى البيت، كان عبد يطوف في ضواحي بغداد، من ضاحية لأخرى بحثاً عن هادي وأخته، بعد أن هدده أبوه بعدم المجيء إلى البيت من دون أن يعرف مكانهما، الساعة قاربت انتصاف الليل وهو لا يعرف أين يذهب. بعد أن أنهكه التجوال قرر العودة إلى البيت وليحدث ما يحدث، ماذا سيفعل له يعني غير الإهانة والضرب، المهم أنه لن يخاف من وعيده بعد الآن، بل حسد أخاه وأخته لأنهما تخلصا منه.
هادي الذي اندهش من دخول امرأة ملثمة، لا تبرز سوى عينيها الواسعتين، وهما وحدهما كافيتان لينسحر بها. أزاحت العصابة عن عينيه، وضعت أمامه طعاماً وشراباً، وجلست أمامه مرتدية ثوباً ضيقاً قصيراً يبرز مفاتن جسدها، ظل مسحوراً لا يستطيع المباشرة بالأكل والشرب.. ولكنها بادرته بصاعقة.. ستقتلك عيناي قبل أي شيء آخر
أجاب بتلعثم: فعلاً
فردت: إذن.. قل من أنت؟
- أنا عامل مقهى، وأعمل ممثلاً أحياناً، نسكن أنا وأختي وأمي في بيت متهالك، في أم الكبر والغزلان، يعني ليس من وراء خطفي أي فدية، كما أنني لا أعرف أي شيء.
سألته كما المحقق: وما علاقتك بالرجل الذي تتابعه، لا بد أنك أحد أفراد عصابة أخرى، وما قلته مجرد تمثيل.
ضحك قائلاً: أنت التي تنفعين ممثلة، تجيدين دور المحققة
فردت بغضب: لا تلف وتدور، من أين تعرف هذا الذي تتابعه؟
- هذا أبي، ظلمنا كثيراً أنا وإخوتي جعلنا متسولين في ساحات بغداد.. أكمل لها قصته.. ظلت فاغرة فاها.. كانت قد سجلت كل ما قاله في جهاز الموبايل الذي خبأته تحت ثوبها.. فجاءتها إشارة عبر الجهاز، بتركه للتباحث في الأمر. أدركوا أن هذا الأب لديه كنز من الأموال، مثلما لديه نقطة ضعف قاتلة، أو ستسبب مقتله، لكن عليهم ألا يعلموا ابنه بما ينوون، بل إنهم سيستخدمون معه أسلوب التهديد إن اقترب من أبيه فهم عصابة أبيه كما سيوهمونه، وعليه سيخرجونه معصوب العينين مثلما دخل، ويرمونه في طريق مظلم مع التفوه بكلمات التهديد والوعيد على طول الطريق، ونفذوا ما خططوا له بحذافيره.
وعادوا للاحتفال بغنيمتهم الكبيرة هذه الليلة، والغنائم القادمة، وهتف أخ الطليقة الكبير: سنعيده إلى (كاره) القديم متسولاً عن أب وجد.
بعد أن تناول عشاءه مع أمه وأخته، في وقت متأخر، أخبرهما هادي أنه عدل عن الانتقام من أبيه، فهناك رب سيحاسب الأب، الذي أدخل نفسه في مأزق كبير، حينما أصبح له أتباع مجرمون لا يرحمون، إذن القانون سيحاسبه في الدنيا والله في الآخرة .
لذا عزم على أن يجتهد في التحصيل الدراسي، ويقرأ بجد، المناهج الدراسية الابتدائية، كلها في سبيل أن يحصل على الشهادة الدراسية تلو الأخرى، وأن يشق طريقه في التمثيل، ولكنه يكره أدوار التهريج والكوميديا التجارية، لذلك قرر الاستمرار بعمله في المقهى، مع ازدياد تمسك صاحبه به، ومحاولته، أي هادي، إخفاء استمرار ظهوره في الفضائيات، لأن صاحب المقهى يفضل عرض مباريات كرة القدم، التي تجتذب أكبر عدد من الرواد، واغتبط لذلك كي يعمل بهدوء ممثلاً وعامل مقهى، أصبح صاحبه يأتمنه حين يغادر المقهى لأداء مشاغله أو سفره،
وارتفع أجره إزاء ذلك إلى 80 ألف دينار أسبوعياً، ما أغبط أمه كثيراً، حيث بدأت بتوفير بعض النقود بعد شراء الضروري جدا لمتطلبات معيشتهم.
9
يبدو أن نهاية الأب اقتربت، فالمصائب تتهاطل على رأسه، ها هو يدخل في بيت إحدى زوجاته المتبقيات بعد تطليقه اثنتين، وإذا به يتفاجأ بحضور عائلتها كلها، بعد أن سمع أفرادها لغطاً مشيناً حول الأب ومصادر ثروته، لذا قرروا تطليقها منه، فقد أصبحت بالغة يحقق لها التصرف في سند البيت المسجل باسمها، فضلاً عن أن ابن عمها الشاب وهما على علاقة طيبة معاً، خططا فيما بينهما بعد أن ينجزا عقد زواج شرعي، أن يبيعا البيت الكبير، ويشتريا بيتاً أصغر منه مسجل باسم الطليقة.
وفارق السعر يكون رأسمالَ مشروعٍ للزوج الجديد العاطل عن العمل، وبعد خبرة الطليقة في تسيير زوجها المسن كما تشاء، اشترطت بمكر أن تكون العصمة بيدها وقبل الزوج العاطل الذي يكبرها بالسن أيضا بفارق عشر سنوات، ذلك على مضض.
كان ينهش، حين جلس بين زوجته وأهلها وبيت عمها وابن عمها، فجفل لهذه اللمة الكبيرة، لا بد أن وراءها أمراً
- ما بك تنهش، زوجي العجوز به جرب أيضاً، خلَصوني منه.. صرخت الزوجة وفرت راكضة إلى غرفتها تبكي ضمن أداء مسرحي متفق عليه.
تكلم أبوها:
- أنت مشكوك في أمرك، ما هذا النهش المستمر لجسدك، أنت مريب وأجرب أيضاً. طلَق بنتي وإلا أخبر السلطات بالحجر الصحي عليك. إرم عليها الطلاق بالثلاثة وتغادر البيت فوراً فهو بيت ابنتنا. أصبحت بالغة. والبيت باسمها. إرم الطلاق.
وهي تنزل ببط على السلم.. كرّر كلمة الطلاق ثلاث مرات، فيما حقيبة ملابسه الجرباء تنتظره في باب المدخل.
دهمه دوار سريع تحالف مع النهش الفاضح في سقوطه أرضاً هو والحقيبة، تحركوا لإنهاضه كي لا يموت بسببهم، ووجه أب الطليقة ابن أخيه في إيصاله في المكان الذي يريد. وتسلم مفتاح السيارة منه، أركبه الأب فيما الزوج القادم
لطليقته أدار محركها وسأله أين يتوجه به، فكر قليلاً وقال:
- زيونة.
هناك زوجته الرابعة. الدوار والنهش يفتكان به. سأله حين وصلا المنطقة، من لك هنا، فقال له:
- معارف.
أوقف السيارة أمام الباب العريضة لبيت ضخم، تعجب الشاب من مساحته الكبيرة وتصميمه الحديث. فكر في ذلك وهو يترجل من السيارة، وينزل الأب الملعون حتى من أجزاء جسده، الذي تحولت انتفاخاتها إلى دوائر حمر كبيرة، من السيارة، وبقي مستنداً عليها لا يستطيع الوقوف حراً. الشاب غادر المكان حتى لا يتهم بشيء يخص لعنة هذا الأب الأجرب.
وبينما مشى الشاب بضع خطوات باتجاه الشارع العام، توقفت بجانبه مركبة حديثة، ترجل منها رجل ملثم ومسلح، وأجبره على الركوب محاطاً بمجموعة ملثمين. أعصبوا عينيه وقيدوا يديه بعد أن سحبوا منه هاتفه الجوال، وبينما فكوا لثامهم أطفؤوا أضواء السيارة في الداخل .
وعندما وصلوا مكمنهم، استعلموا مع التعذيب عما دار في البيت الذي في المنصور، أعلمهم بما جرى، حينها اتصلوا مع ذويه، مخبرينهم بأن البيت الذي استولوا عليه قيمته 800 مليون دينار، لذا:
- نطالبكم بفدية مقدارها نصف هذا المبلغ كي نطلق سراح ابنكم، أي حركة مريبة، إي امتناع عن الدفع سيكون مصير جثته هامدة في إحدى المزابل.
حينها أدرك ذووه أن لعنة الأب الأجرب أصابتهم أيضاً.
10
بمشقة بصم الأب أصابعه على زر الجرس، فتحت زوجته الرابعة والأخيرة الباب، وارتعبت حين رأت الدوائر الحمر الملتهبة تغزو وجهه ويديه، فضلاً عن أن أجزاء جسمه المغطاة بالملابس، تبدو مدببة، صرخت مذعورةً تاركة إياه، واستدعت أهلها ومعارفها الذين كانوا يحتفلون بعيد ميلادها، ولما تزل الشموع موقدة.
لم يلمسه أحد ممن جاؤوا راكضين على صراخ ابنتهم، دخل الصالة، وكانوا على مسافة خشية أن يصابوا بما أصيب به، قال والكلمات تخرج منه بصعوبة:
- ما هي المناسبة في لمتكم، فقد أصبحت أخشى اللمات. فضلاً عن أنني أخشى النار .
- ونحن أيضا نخشى الاقتراب منك، لذا ندعوك أن تطفئ الشموع الثمانية عشر.. أجابه أكثر من واحد منهم
- كم؟ مرتعباً قال
ارتفعت الدوائر الحمر في أجزاء جسده، بل أصبح هو كرة جلدية حمراء كبيرة.
جَمعُ الأهل والمعارف الذي باعدوا مسافاتهم عنه، حلّت في أعينهم غشاوة الرؤية، حينما شاهدوا بضبابية ارتعبوا منها، النيران الشمعية الثمانية عشر، المؤذنة ببلوغ زوجته الرابعة والأخيرة النضوج، ومن ثم يحق لها تملك بيته الأخير، وفق تنازله لها عنه. شاهدوا النيران مع فرارهم السريع من الصالة إلى الحديقة، تتوهج في أماكن متفرقة من جلده الكروي الأحمر، ومن ثم سمعوا دوي انفجار، وكأن الشموع المحرقة للكرة الجلدية الحمراء تحولت إلى أفواه نارية ماضغة بصوت عالٍ اللحم المنتفخ، كان جسده يتضاءل، وآخر ما التهمت الحيوانات النارية المفترسة، رأسه المدبب، الذي كانت تسطع فيه حيناً، وتشحب حيناً آخر صور بؤس أبنائه وبناته المشردات في الشوارع، ومعهم الأم المظلومة التي توحش معها العمر كله.
........................................................................................
• أي تشابه في الأسماء الواردة في القصة مع ما هو واقعي يعد تشابهاً غير مقصود