الموت طعنةٌ لزمان المجد ، الموت ظلنا الذي يدفعنا نحو الهاوية الحتمية إجباراً وقسراً وحقاً وذلاً وسخريةً ولايحق لنا الإعتراض ولا التفوه بطلب التأجيل ، والحياة واحدة ولانمتلك لها إحتياطا كما عجلةٍ لو عطب إطارها من الممكن تبديله بالإحتياط والمضي سيراً مرة أخرى ... ...

لي أم أنجبتني مع ستة من البنات والبنين ولي أم أخرى تلك التي انشأتنا وسهرت علينا بعد وفاة والدي بكل طاقتها وحياتها وفدائها في أن تظل لرعايتنا دون أن تفكر بحقها وخصوصيتها بالحياة بل كانت تقول عندي سبعة يملئون عليّ فرحتي وسعادتي وفناعتي ورضا ربي وعليه توكلت وهذا يكفيني ، فتركت جمالها الأبيض الرشيق فداءً لهذا الغرض الذي قلّما تفعله نساء هذا اليوم . تستمر الحياة بين أمّين من ذلك الزمن الذي لاتتكرر به الأمهات بقناعتهن المطلقة وحبهن الغير مشروط  حتى موتهن معا بفارق قصير من الزمن.الأم الثانية خالتي أعطاها الرب مهنة الخياطة في البيت والمهارة في الطبخ وادارة المنزل بشكل يفوق التصور وعلى يديها تخرّج المهندسون والمعلمات . أما الآم التي أنجبتني فكانت لاتعرف سوى الوقوف على تنور الصلصال والخبز ، أما المال حتى مماتها لاتعرف سوى إسم الربع دينار دون معرفة قيمته . في الآونة الأخيرة وعند شيخوختهن جمعتا في غرفة واحدة في بيت اخي الكبير لتسهيل العناية بهن من قبل الأخوات وبالتناوب وهذا شيء صعب للغاية لآن الأمر يتطلب كما هو في بلدان الغرب في أن يوضعن في دار للعجزة لكن التقاليد لاتسمح بذلك إعتمادا على الخوف من الرب فيما إذا أودعت أمك في دار للعجزة والخوف من أحاديث الناس من أن العائلة الفلانية تنكرت لأمها وأودعتها في دار العجزة للخلاص منها ومن أوزارها . في نهاية خلاصهن هناك من المفارقات العجيبة فخالتي هي الأصغر سناً بالكثير من السنوات كانت تخاف من الموت لآنها بقيت على عقلها ولم يصبها الزهايمر فكانت شديدة الخوف من الموت حتى فارقت الحياة بعد ان أصبحت نحيفة كما عود الثقاب بينما كانت تحفر الآرض بأقدامها الصلبة القوية الواثقة الراسخة . أما أمي أصابها الزهايمر بحيث انها لم تعد تعرف شيئاً ولا حتى أولادها الاّ إثنين منهم كانوا بعنايتها في اللحظة الأخيرة . وحين ماتت خالتي بجانبها فقالت شيئا واحدا: أين هذ المرأة التي كانت نائمة هنا قبالتي وكإنها ليست أختها التي عاشت معها كل الدهر بآلامه وأفراحه .

وفي النهاية وعند موتهن فارقنَ الغرفة الكائنة في بيتنا وانتقلن الى النجف الأشرف حيث السردايب التي جمعتهن معاً أيضا كما السريرين في البيت ويالغرابة مصائر البشر . العزاء والرحمة لآرواحهنّ مابقي الدهر .

شاعر وناقد عراقي