في مدينة الحلة، تلك الحاضرة التي امتزج فيها عبق التاريخ بأنفاس الفرات، وُلِد رائد كاظم جبر عبد الله النافعي بتاريخ السابع والعشرين من شباط عام 1978. كان قدره أن يولد في أرضٍ لا تهدأ فيها الذاكرة، حيث كل حجر يروي قصة، وكل زقاق يحتفظ بندبة أو بصمة، وربما لهذا السبب لم تكن الكتابة عنده ترفًا أو نزوة، بل كانت حاجةً روحية تشبه التنفس، وممرًا داخليًا يقوده من الحاضر إلى أعماق الذاكرة الجمعية.
أكمل رائد دراسته الأولية في مدينته، قبل أن ينتقل إلى رحاب جامعة بابل، التي احتضنته طالبًا في كلية التربية للعلوم الإنسانية حتى تخرّج عام 2004، ليبدأ رحلته الطويلة في عالم الحرف والفكر. سنوات قليلة فصلته عن أولى محاولاته للانخراط في المشهد الثقافي، وكانت بدايته الفعلية عام 1998، من خلال مشاركاته في الفعاليات الجامعية التي كانت آنذاك تشكل فضاءً خصبًا للطاقات الشابة.
لكن الطريق إلى الاعتراف الأدبي لم يكن معبّدًا؛ فقد طرق باب اتحاد الأدباء في بابل بعد تخرّجه، فقوبل طلبه بالاعتذار لعدم امتلاكه كتابًا مطبوعًا، غير أن خيبات البدايات لم تكن سوى وقودٍ أشعل عزيمته، فاستمر يكتب ويبحث وينشر ويجالس الكتّاب والنقاد، حتى غدا عضوًا فاعلًا في اتحاد أدباء بابل سنة 2018، ومن ثم عضوا في نادي السرد، ليتكرس حضوره الأدبي والفكري بعد ذلك.
لم يكن رائد كاظم كاتبًا نمطيًا، بل تعددت مشاربه ومواهبه، فكتب الدراما والنص التلفزيوني، إذ أنجز نصًا دراميًا بعنوان أنين الياسمين وُضِع في عهدة قناة العراقية، وكتب نصًا آخر بعنوان عيون المها للدراما الخليجية. غير أن صوته السردي بلغ ذروة حضوره في رواياته، التي تكشف عن مزاج أدبي يميل إلى التأمل والتحليل، ويشتبك مع الواقع العراقي من جهة، ومع البعد الإنساني من جهة أخرى.
في روايته العزيف، الصادرة عن دار الصادق عام 2017، يظهر انشغاله العميق بالتصدي للفكر المتطرف، من خلال بناء سردي محكم يوازن بين الخيال والواقع، وبين الشخصي والعام. وقد لاقت الرواية صدى طيبًا، حيث كُرّم من قبل جامعة الفرات الأوسط التقنية، وعدّت الرواية منجزًا يسهم في إشاعة خطاب الاعتدال والتنوير. أما روايته الثانية صنع في بابل، التي صدرت عن دار النخبة في القاهرة عام 2018، فقد أكدت من جديد انتماءه لمدينته لا بوصفها مكانًا فحسب، بل بوصفها رمزًا وملاذًا وموضوعًا للسرد، وقد عبّر فيها عن مزيج الذاكرة والتاريخ والمعاناة المعاصرة التي تعيشها الذات العراقية.
وقد استأثرت رواياته باهتمام بعض النقاد الذين رأوا في كتابته نزوعًا نحو الواقعية الرمزية، حيث تتقاطع الثيمات الوطنية والوجودية في نصوص تنبض بالشجن والصدق. يشير بعضهم إلى أن العزيف لا يمكن قراءتها بوصفها مجرد رواية عن الإرهاب، بل هي كشف عن البنية النفسية للإنسان العراقي وهو يواجه طوفان الخراب. بينما توقف آخرون عند صنع في بابل بوصفها محاولة سردية لاستعادة هوية مدينة شوهتها الحروب والخرائط المتبدلة.
يصفه النقاد بأنه كاتب يتقن رسم الشخصيات، ويمنحها عمقًا دراميًا واضحًا، كما يتميز بأسلوب لغوي يجمع بين البساطة والبلاغة، متجنبًا الزخرفة اللفظية لصالح تعبير أكثر فاعلية وأقرب إلى الواقع. وتتمثل قوة نصوصه – كما يرى البعض – في قدرته على التقاط اللحظات الهامشية وتحويلها إلى بؤر دلالية تنبض بالحياة.
لم يتوقف طموحه عند النشر أو الظهور الثقافي، بل واصل مسيرته الأكاديمية، فنال شهادة الماجستير في الأدب العربي من كلية التربية – جامعة القادسية عام 2021، ويواصل دراسته اليوم طالب دكتوراه في الجامعة نفسها، في قسم اللغة العربية، فيما يشغل موقعه الأكاديمي أستاذًا في كلية الآداب – جامعة بابل، مؤدِّيًا رسالته العلمية والتربوية في صمتٍ ورفعة.
نال قلادة الإبداع من مؤسسة ميزوبوتاميا للتنمية الثقافية في مهرجانها السنوي عام 2018، في إشارة واضحة إلى التقدير الذي يحظى به داخل الأوساط الثقافية العراقية. ولديه العديد من المشاريع الكتابية التي تنتظر أن ترى النور، منها رواية تلك الأيام، التي هي قيد المراجعة والطبع، بالإضافة إلى أعمال أخرى لا تزال محفوظة في أدراجه، بانتظار اللحظة المناسبة.
إن رائد كاظم هو أحد الأصوات السردية التي تمثل امتدادًا لتجربة العراق الثقافية، في زمنٍ ضاقت فيه المساحات وارتفعت فيه أصوات الرصاص فوق همس الأدب. لكنه، بصفته كاتبًا وباحثًا ومثقفًا، آمن بأن السرد يمكنه أن يكون فعل مقاومة، وأن الكتابة ليست هروبًا بل مواجهة، وأن بابل التي يسكنها يمكن أن تنهض من رمادها إذا ما أُعيد سردها بعين محبة وعقل واعٍ. وهو ما يفعله، نصًا بعد آخر، بإخلاصٍ قلّ نظيره.