جزء الثاني والاخير (تتمة مقالي السابق : احمد الزفزافي : مسار سياسي لا ينكر وإرث باق في الذاكرة)
فوجئت قوات الشرطة بحجم الحشد الشعبي، وظنّت أنها قادرة على احتواء تلك الحماسة كما يُطفأ لهب القش. لم يكونوا يتوقعون ذلك.
لكن في ذلك اليوم، في الحسيمة — موطن الإقامة — وأجدير — موطن الدفن على بُعد سبعة كيلومترات تقريبًا —، لم يكن لهبًا عابرًا، بل كان حريقًا هائلًا يشتعل في السماء.
كما في سنة 2016، لم يكن هناك ما يمكن أن يوقف اندفاع شعبٍ واقفٍ على قدميه.
صحيح أن الأجهزة الأمنية كانت تملك ملفًا عن عزي أحمد الزفزافي، الأب،
لكنها لم تكن تملك شيئًا عن ناصر، الابن.
لا شيء سوى تلك الطاقة المتقدة، والإيمان الراسخ الذي لا تقيسه التقارير ولا الملفات.
عندها لجؤوا إلى الأسلوب القديم: زرع الفتنة.
فرّقوا الوجوه، وبثّوا الشك، وصنعوا الخصومات داخل الحراك.
لكن البذرة التي أرادوا تمزيقها كانت قد ترسخت عميقًا في الأرض.
وحين رأوا الوحدة تصمد، أطلقوا العنان للقمع.
حلّت العصا محل الحوار، واحتلّت القيود مكان الوعود.
في الرباط، كان صدى صرخات الحسيمة لا يزال يتردد.
كثير من القادة الثانويين، وقد شعروا بالخناق يضيق، اضطروا إلى مغادرة أرضهم (الحسيمة) : بعضهم اتجه نحو أوروبا، وآخرون تفرّقوا في مدنٍ مغربيةٍ أخرى.
لكن في الذاكرة الجماعية، بقيت صورة واحدة شامخة، فخورة، لا تُقهر:
ناصر الزفزافي.
في ذلك اليوم، في مقبرة أجدير، حُسمت الأمور.
أرادت الشرطة أن تأخذه في صمت، كما تُنتزع حجارة من جدار.
لكن الشعب انتفض.
أحاطت الجموع بالمكان، تهتف باسمه، تطالب بإطلاق سراحه.
لم تُسجّل الكاميرات الرسمية شيئًا: لا صور، فقط شهود، وأصوات، وارتعاشةٌ لا تزال تسكن الحكايات حتى اليوم.
في ذلك اليوم، وُلد الأسد من الشبل.
مرّت السنوات، لكن الزئير لم يخمد.
خلف الجدران، خلف الصمت، يواصل اسم ناصر الزفزافي سريانه،
كنَفَسٍ لا يمكن خنقه في كل المغرب.
ظنّوا أنهم سجنوا رجلًا،
لكنهم أطلقوا فكرة.
لأن الأمل لا يُسجن.
في قرى الريف، في أحياء الدار البيضاء، في شوارع الرباط، لا يزال الهمس قائماً:
«كرامة، عدالة، حرية.»
كلمات بسيطة، لكنها ثقيلة بالوعد.
لم يعد الحراك مجرد حركة، بل ذاكرة جماعية، نجمة تهدي الذين يرفضون أن يُطأطئوا رؤوسهم.
ناصر، أسد الريف، ليس أسطورة ولا شهيدًا،
بل رمز لشعبٍ، رغم الألم والمحن، لا يزال يؤمن بأن مغربًا آخر ممكن.
مغربًا شامخًا، أخويًا، إنسانيًا.
وفي كل نظرةٍ تضيء، وفي كل صوتٍ يرتفع بلا خوف،
يسكن شيءٌ من ذلك الشبل الذي صار أسدًا.
هناك صدى وعدٍ لا يموت:
ما دامت هناك قلوب تنبض بإيقاع العدالة،
فلن يخبو زئير الريف أبدًا.
بقلم: عبدالحق الـريـكي
إمزورن، الخميس 09 أكتوبر 2025