في مدينة الحلة، تلك التي تغفو على ضفاف الفرات وقد خبّأت في تربتها أصوات الأولين ونداءات الشعراء، ولد القاص عبد الحسين رشيد صالح خطاب العبيدي في 8 تموز عام 1956، وما أن تفتّحت حواسه حتى أدرك أن للكلمات ظلًا أعمق من ظل الإنسان. ومنذ بداياته الأولى، كان الهمّ السردي ينهض فيه كما تنهض النبوءة القديمة في كاتبٍ لم يختر قدره، بل وُهب له.
تخرّج من كلية الآداب – جامعة بغداد عام 1977، حاملاً شهادة أكاديمية، لكنها لم تكن وحدها بوابة الكتابة، بل كانت التجربة الحياتية – في التعليم، في التقاعد، في المراقبة الصامتة لما يجري – هي المعين الذي ظلّ ينهل منه قصصه، واحدةً تلو الأخرى، كمن يلتقط الحجارة الكريمة من نهرٍ عكر.
انتماؤه إلى اتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين فرع بابل عام 2012، وعضويته في نادي السرد وجمعية الرواد والرابطة العربية للآداب، تؤكد أن عبد الحسين العبيدي لم يكن كاتبًا معزولًا، بل جزءًا من نسيج ثقافي حيّ، يسهم فيه لا كرقم، بل كصوتٍ يمتلك نبرته الخاصة، وصبره الباهر في القص.
كتب القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا، وهو بذلك يضع نفسه في معترك صعب يتطلّب براعة التقطير، ودقّة الإمساك باللحظة، والقدرة على صوغ المفارقة بلغة موجزة كثيفة، كالسهم. ومنذ مجموعته الأولى "بيت العنكبوت" التي صدرت عام 2012 عن دار تموز في سوريا، كشف العبيدي عن انحيازه إلى نصّ يُراقب من الأعماق، نصّ لا يكتفي بالوصف، بل ينبش، يوجع، يحرّض.
توالت بعد ذلك إصداراته: "أغاني المقموع" (2022)، التي بدت وكأنها قصائد احتجاج بلغة السرد، ثم "وجه أزرق" تحت الطبع، وقد تناثر اسمه في عناوين مشتركة مثل "بوح النواعير"، "كلنا مجانين"، "الأنسنة"، "هزيز الفجر"، "ظلال سومرية" وغيرها. وأصدر إلكترونيًا مجموعات عدة، منها "صفعات"، "اذعان"، "سوء تقدير"، "على باب الله"، والتي تشي جميعها بكاتب لا يتوقف، بل يركض وراء نصّه كما يركض عاشق خلف ظلّ الحبيبة.
وإن كانت قصص العبيدي قد عبرت المطبعة، فقد عبرت أيضًا حدود العراق، فنُشرت نصوصه في مجلات وصحف عراقية وعربية وأجنبية: من بابليون إلى الزمان المصرية، من بصرياثا إلى ستاند البريطانية، مرورًا بـطريق الشعب والعربي اليوم، وهو ما يدلّ على اتساع رقعة التلقي لهذا الصوت السردي الباذخ بالصدق والتجريب.
كتب عنه نقّادٌ وباحثون كثر، منهم محمد العميدي في دراساته النقدية، والدكتور سعد الحداد في "ديوان القصة البابلية"، وداود السلمان في "نكهة المعنى"، وياسر العطية في "الضميم"، وعلي غازي في "نظرة من الداخل"، وعباس عجاج في "مقاربات نقدية"، وعبد الزهرة عمارة في أكثر من مؤلف، حتى خُصّ بأعمال كاملة مثل "أسماء لامعة في سماء المدينة" و"أنطولوجيا القصة القصيرة جدًا"، وكأن مشروعه السردي قد أخذ مكانه في الذاكرة الأدبية العراقية.
أما الذين تابعوا نتاجه القصصي عن كثب، فيرونه قاصًا حاذقًا يعرف كيف يلتقط لحظة التشظي الإنساني، ويعيد تشكيلها في قوالب سردية قصيرة، لكنها مشحونة بتيار خفي من الحزن والتساؤل. شخصياته ليست ملحمية ولا بطولية، بل يومية، مأزومة، تبحث عن مخرج وسط الخراب، ولهذا تجد القارئ يلمس ذاته فيها بسهولة.
يرى النقاد أن العبيدي يمتلك قدرة بارعة على الاقتصاد اللغوي دون أن يُفقد النص روحه، وعلى صناعة المفارقة دون أن تتحول إلى حيلة، وعلى العبور من الذات إلى الجماعة بسلاسة، كما يتميّز بقدرته على أن يجعل القصة القصيرة جدًا، ذات المساحة المحدودة، نافذة تطلّ على حياة كاملة، بضربة قلم واحدة.
عبد الحسين العبيدي، إذن، ليس مجرّد قاص عراقي، بل سارد الحواف، ذاك الذي يكتب من الهامش لا ليبقى فيه، بل ليشير إلى مركز مختلّ، ويرصد، بكثافة حادة، كيف تتهاوى القيم، وتختلّ البديهيات، وتنمو الأوهام، وتبقى القصّة، وحدها، قادرة على أن تُرمّم ما تكسر في الإنسان.