في قلب العراق، حيث تمتزج عراقة النهر بروح التنوير، نشأ الكاتب عباس بغدادي طفلًا بين دروب الحلة، مدينة الحرف والصورة والذاكرة. حمل اسمه جذرًا ممتدًا إلى بغداد، غير أن الحلة احتضنته وأعادت تشكيل صوته ونظرته، فصار ابنها في الهوى والانتماء، كما كان ابنها في اللغة والكتابة.
ولد عباس بن إبراهيم البغدادي في محلة الكلج سنة 1950، بعد أن نزحت أسرته من بغداد إلى الحلة. نشأ في أزقتها وتشرّب من هوائها أولى بذور التعلق بالتراث والهوية. تنقّل في مدارسها إلى أن غادرها إلى بغداد ليكمل دراسته الجامعية في كلية التربية، قسم الجغرافيا، سنة 1970. وقد لا يكون من الغريب أن يختار الجغرافيا، إذ ظلت الأمكنة تتقاطع في ذاكرته، وتتحول لاحقًا إلى شخصيات روائية وصور سردية تحاكي المعمار والبشر على حد سواء.
سافر إلى مصر أواسط السبعينات، طامحًا إلى نيل شهادة عليا من جامعة عين شمس، لكنه اصطدم بواقع الظروف السياسية التي لم تُمهله طويلاً، فعاد إلى العراق ولم يُكمل مشواره الأكاديمي. وبسبب عدم ولائه للنظام الحاكم آنذاك، وُئدت فرصته في التعليم، ونُقل إلى وزارة المالية، حيث عمل في مصرف الرشيد حتى تقاعده سنة 1993. إلا أن القلم لم يعرف التقاعد، فكانت الكتابة حقيقته المتجددة، ووسيلته للنجاة من قسوة الواقع.
عباس بغدادي لم يكن مجرد موظف يهوى الكتابة، بل كان مؤرخًا شعبيًا لمدينته، غاص في تراثها وسير أعلامها، وكتب عنهم بروح المحب والعارف، فوثق ما اندثر ولامس ما غاب عن عيون المؤرخين الرسميين. كتب عن الشيخ يوسف كركوش بمنهج الباحث، واستعاد ذكريات عبد الكريم الماشطة بحنين الرفيق القديم، وناقش واقع المصارف العراقية وهمومها بفكر اقتصادي شفاف لا يخلو من بعد اجتماعي.
تميّزت كتاباته الأدبية، خصوصًا القصصية، بلغة مقتضبة، ناضجة، تغازل اليومي وتضيء زوايا المهمّش والعابر. في مجموعته "جدران مصوّرة"، يرسم مشاهد الحياة بجمالية مضمرة، تجعل القارئ شريكًا في بناء الحدث لا متلقيًا فقط. أما في "باليه الساعة السادسة"، فنحن أمام كتابة تفتح النافذة على الرمزي والساخر في آن، وكأن النص يتقافز بين الحلم والواقع ليقول: هذا ما تبقى من المدينة... وهذه رقصة مفرداتها.
في روايته "دلتا بابل الفسيح"، يخوض تجربة السرد الطويل ببنية مفتوحة على التاريخ والميتافيزيقيا، تزدحم فيها الصور والموروثات، لكنها لا تقع في فخ التقليد، بل تسبح في تيار خاص صنعه الكاتب لنفسه خارج السائد والمكرر.
النقاد الذين تناولوا أعماله نظروا إليه بوصفه كاتبًا لا يبحث عن الضوء بقدر ما ينشغل بتأثيث عتمة الذاكرة. قال بعضهم إنه "كاتب المهمّشين"، فيما رآه آخرون "مؤرخ الحلة بقلق أدبي"، بينما عُدّ عند نفرٍ ثالث من "الكتّاب الذين تشبه كتاباتهم شخصياتهم: هادئة، عميقة، ومراوغة في آن". وقد أُشيد بقدرته على المزج بين لغة الصحافة وسرديات الأدب دون أن يفقد النص بريقه أو قيمته الجمالية.
عباس بغدادي لم ينشغل يومًا بوهج الجوائز ولا ضجيج المنابر، بل اختار أن يكتب حيث ينبغي أن تكون الكتابة: في الظلال، في الهوامش، وفي وجدان الناس. تُرجمت بعض قصصه إلى اللغة الإنكليزية ونُشرت في مجلة "كلكامش"، لتثبت أن صوته قادر على عبور الجغرافيا، شأنه شأن كل كاتب أصيل.
هو واحد من أصوات مدينة الحلة التي لا تُنسى. إن لم يكن في الذاكرة الرسمية، ففي القلوب التي قرأت له، أو عبرت ذات يوم شارعًا تحدّث عنه، أو عثرت في نصه على ملامحها المطموسة. عباس بغدادي... كتابة لا تهتف، بل تهمس بما لا يُقال، وتحمل الحلة كأثرٍ خالد في القلب والنص.
توفي بعد مرض لازمه لأيام وترك ارثاً لا زال محط الأنظار.