من محلة جبران، تلك التي تفوح بعبق نخيل الحلة وأزقتها الطينية، انطلقت أولى حروف علاء مظلوم السعدي، شاعرًا لا يكتب القصيدة كما تُكتب عادة، بل ينحتها كما يُنحت تمثال في معبد قديم، مملوءٍ بصرخة الأسئلة وفتنة الحكمة. وُلد في عام 1954، في زمنٍ كان فيه الوطن يتقلب على جمر السياسة والخيبات، فكبرت في داخله قصيدة لم تكن تبحث عن الوزن فحسب، بل عن المعنى، وعن الإنسان الحائر بين الحرية والاستعباد، بين الضوء والظلال.
في العام 1967، وكان بعدُ تلميذًا، تعلّم كيف يضع قلبه على الورق. لم يكن الشعر عنده تمرينًا لغويًا أو انفعالًا عابرًا، بل كان طريقًا للمعرفة ومجابهة الوجود. وفي 1976، حين وقف في مهرجان مدرسي يُلقي "جدارية على جريد النخل"، لم يكن يُنافس زملاءه فحسب، بل كان يعلن بداية مشروع شعري طويل النفس، متعدد الطبقات، مفتوح الأفق. تلك الجدارية لم تكن أولى تجلياته، لكنها كانت أول صيحة شعرية له في العلن، صيحة أدرك النقاد فيها مبكرًا حضور شاعر يفكر وهو يكتب، ويصغي وهو ينطق.
ثم توالت القصائد، وراحت المجلات والصحف تفتح له نوافذها. كتب في "طريق الشعب"، وفي "الزمان"، وفي "الفكر الجديد"، لكن نصوصه لم تكن تكتفي بالنشر، بل كانت تتمدد نحو القارئ، تزعزع يقينه، وتستفز أسئلته. قصيدته الطويلة "مملكة الجلنار"، التي صدرت في كراس عن اتحاد الأدباء في بابل، لم تكن قصيدة بالمعنى المألوف، بل كانت وثيقة شعرية تتأمل في الإنسان العراقي، وتغوص في أعمق طبقات المخيلة، حتى بدا وكأنها أطروحة شعرية في شكل نسيج لغوي مشبع بالحلم والخيبة معًا.
ترجمت نصوصه إلى اللغة الإنكليزية ضمن إصدار لدار المأمون، واحتفى به النقاد بوصفه شاعرًا يتقاطع مع الفلسفة، لا من موقع الافتعال أو الادعاء، بل من باب الهمّ الفكري الحقيقي. في قصائده، كما يلاحظ الناقد د. عبد الرضا عوض، يتلاقى الحزن الرافديني مع الحنين الأبدي إلى الطهر الإنساني. أما الدكتور صباح نوري المرزوك فقد أدرجه في موسوعاته مرارًا، بوصفه واحدًا من أخلص أبناء الحلة الذين حافظوا على شعريتها وحضارتها، وحملوها إلى فضاءات جديدة لا تتقيد بالشكل، بل تنفذ إلى المضمون.
وقد ذهب بعض النقاد إلى المقارنة بينه وبين الشاعر شاكر نصيف، لا من باب التأثر فقط، بل من حيث الاشتباك مع الأسئلة الكبرى والالتصاق بالإنسان في مأزقه التاريخي. شعر علاء مظلوم لا يصرخ، بل يهمس، لكنه همس مزلزل، يقطر وعيًا. في قصيدته "رأس عطيل" نسمع شبح شكسبير يتحاور مع ذاكرة عراقية مشبعة بالخيانة والموت والحب المجهض. أما في "يوسف"، فتتجلى ثنائية البراءة والمكر، القدر والاختيار، وكأن الشاعر يفتح كتاب التأريخ ليقرأه بعيونٍ لا تزال دامعة.
ولم يكن علاء شاعر قصيدة فقط، بل صاحب فكر ومقالة. منذ 2003، نشر موضوعات تتأمل في الحرية والعقل والإرادة والهوية، كان آخرها "العقل وحرية الإرادة"، التي قدّم فيها مقاربة فلسفية بلغة أدبية، حيث لا حدود فاصلة بين الشعر والفكر. وكانه يقول: "كل فكرة عظيمة لا بد أن تُصاغ بنبض القلب، وكل شعر حقيقي لا بد أن يُفكر."
هو اليوم عضو في اتحاد أدباء وكتّاب بابل، لكنه قبل ذلك ابن الحلة، شاعرها الذي أخذ ترابها إلى القصيدة، وماء فراتها إلى السطر الشعري. كتب عنه الحداد والمرزوك وغيرهما، لكن ما كُتب لا يفيه، لأنه ببساطة شاعر يكتب لا ليمجَّد، بل ليظل السؤال مفتوحًا، والقصيدة مستيقظة، والحلم مشتعلاً تحت رماد الواقع.
علاء مظلوم... شاعرٌ لا يمرّ بك، بل يقيم فيك.
في هذا المقطع المنتقى من إحدى قصائد الشاعر علاء مظلوم، تتجلى فيه نزعته الفلسفية وتأملاته في جدلية الوجود والعدم، والإنسان في مواجهة مصيره:
"أنا لا أرى في المرايا سوى رجع خطوي،
ولا في الوجوه سوايَ،
أشدُّ قميصي على جرح قلبي،
وأمضي إلى غديَ المنكسرْ...
أنا فكرةٌ... لم تقلها العصورُ
لأن الزمان قصيرْ،
وأنا زمنٌ هاربٌ من جدار القبورْ..."
في هذا المقطع، تتضح رؤية علاء مظلوم للذات بوصفها مشروعًا مفتوحًا على الأسئلة، لا تستقر في صورة واحدة، ولا تجد نفسها في الآخر إلا لتتوارى من جديد. "أنا فكرةٌ... لم تقلها العصورُ" — بهذه العبارة يحوّل ذاته إلى كينونة فلسفية، تسبح خارج حدود الزمان والمكان. وهي ذات مرتبكة بالقدر الذي هي متمردة، لا تكتفي بانتظار مصيرها، بل تسعى لكسره أو إعادة تشكيله.
وقد علّق أحد النقاد على هذا المقطع قائلًا:
"في شعر علاء مظلوم، نلمس تمردًا هادئًا على اليقين، وانحيازًا للهاجس الوجودي بأسلوب شفيف، فيه من الحكمة قدر ما فيه من الشجن. إنه لا يكتفي بتأمل العالم، بل يعيد خلقه شعريًا، وهذا سر فرادة صوته."