مرت 37 سنة على ذلك الفعل الشنيع، لن أنسى ما حييت تلك الجريمة المروعة، حيث قصفتنا طائرات النظام الدكتاتوري المباد بالأسلحة الكيماوية، شيء لم نحسب حسابه. كنا نظن أننا أمام دكتاتور ونظام شمولي كما يردد البعض اليوم، لم نكن نعلم أننا أمام عصابة مجرمة لا أخلاق لها، ولا تعرف المواثيق والمعاهدات الدولية، أبناء شوارع ومرتزقة ومجرمون عتاة، جندهم أبن العوجة الأهوج ليقتلوا بالأسلحة السامة أبناء العراق الأشاوس، المناضلين الحقيقيين الذين لم تغرهم السلطة بموائدها ولم ترهبهم بقوتها، تركوا ملذات الحياة وأمتطوا الريح نحو الجبال والوديان، متاعهم السقط وشرابهم ندى غيمة، وأحلامهم بلا حدود، أرادوا الحياة بحريتها لا بعبوديتها، أحبوا الناس وكانوا لهم أوفياء.

كنت أول من كتب عن ذلك الحدث في ذكراه العاشرة في مقالة نشرت في العدد 30 من رسالة العراق الصادرة في لندن في حزيران 1997، وعلى الصفحة الخامسة، وفي زاوية ، - مع أطيب التمنيات- حيث كتبت،(( حدثان وحّدهما التاريخ والدلالات، بين الخامس من حزيران 1967، والخامس من حزيران 1987 عشرون عاماً، وإذا كانت ذكرى النكسة مؤلمة للعالم العربي برمته، فأن حدث 5 حزيران1987 كان فريدا وله دلالاته وسابقته. ففي هذا اليوم قام صدام وأعوانه بالإحتفال بذلك الحدث بطريقته الخاصة، وذلك بإرسال طائراته الغادرة وهي محملة بالأسلحة الكيماوية القاتلة، لا لكي تضرب إسرائيل، بل لتضرب أبناء شعبنا العراقي الغيارى في كردستان العراق، لترمي بسمومها على العراقيين، من عرب وكرد وتركمان، معارضين للحرب ومعارضين للدكتاتورية والفاشية، منتهكاً كل القوانين والأعراف الدولية، بل وكل الحقوق الإنسانية، ضارباً بعرض الحائط جميع الشرائع التي تحرم أنتاج وأستخدام الأسلحة الكيماوية حتى ضد الأعداء الخارجيين. في "كَلي (وادي) زيوة"، على ضفاف الزاب المتدفق مسرعاً نحو الجنوب، والذي يتلوى كأفعى مذعورة ليصب في أحد شرايين العراق الجميل، كانت الحياة نابضة، مفعمة في الروعة والجمال وصور النضال، حياة تسير بنبضٍ حضاري خاص بكل ما تعنيه الكلمة رغم البعد النسبي عن الحضارة، كان لنا مسرح متطور بمضامينه وبفنانيه ومبدعيه من مؤلفين ومخرجين وممثلين ومطربين وملحنين وراقصين، وثمة معارض فنية تشكيلية لمبدعين من الطراز الأول، وموسيقى عذبة تصدح وتنداح معها الأغاني الجميلة العذبة، وسط الأمسيات الثقافية التي تقام بأستمرار، وهنالك الفرق الرياضية والشطرنج...الخ.

في مساء الخامس من حزيران 1987 كنا نتفرج على مباراة لكرة القدم بين فريقين انصاريين، وما هي إلا لحظات وإذا بأصوات مدوية للطيران الحربي في وقتٍ يعتبر متأخرا وغير متوقع، شككنا فيه، لكن ليس لحقدهم وإجرامهم من حدود، فأنقضّت الطائرات على الوادي وألقت حمولتها من الأسلحة الكيماوية في وسطه لتحيله إلى كتلةٍ من الغازات والحرائق والدخان السام وبشكلٍ كثيف جداً، لتقتل كل ما هو جميل وعذب، ولتزهق الروح المفعمة بالحياة، وللأسف كان لقلة الخبرة والتجربة بالأسلحة الكيماوية وضعف الحذر واليقظة أثرها في زيادة الإصابات بين الرفاق.

كانت الجريمة كبيرة بكل المعاني، مسجلاً نظام صدام بذلك سابقة سوداء لا مثيل لها، لتضاف إلى سجله الإجرامي الملطخ بدماءِ المناضلين والأبرياء. لقد كان ضحايا هذا العمل الإجرامي المئات من الجرحى والمصابين من نساءٍ وأطفال وشيوخٍ ورجال وفي مكانٍ معزول عن العالم ويصعب الوصول إليه والإطلاع على حجم الجريمة. أستشهد الرفيق أبو فؤاد بعد ساعاتٍ من اصابته، وبعده باسبوع أستشهد الرفيق أبو رزكار الذي بقي طيلة تلك الأيام نموذجاً للشيوعي والانسان الصامد الصبور المكافح.

أما الرفاق الآخرون، فتعددت إصاباتهم بين الفقاعات الجلدية والعمى المؤقت والإسهال والحروق والجروح، والتي لا زال البعض منهم يعانون من آثارها لحد الآن.

أن الصمت السياسي والإعلامي، الاقليمي والعالمي عن تلك الجريمة انذاك، بالرغم من توثيقها بفلم تم تسجيله في الزمان والمكان وتم ايصاله الى الخارج، دفع النظام الدكتاتوري وسلطته الفاشية الى التمادي كثيرا في استخدام اسلحته السامة المحرمة دوليا، حيث ارتكب جريمته الأخرى في آذار 1988 ضد مدينة حلبجة واهلها الابرياء الذين مات منهم الالاف من النساء والرجال والاطفال، عوائل بكاملها ابيدت تماما بالاسلحة الكيمياوية القاتلة، كما استخدمت السلطة الغاشمة الاسلحة الممنوعة ضد ابناء شعبنا المنتفضين في اذار من عام 1991.

في الذكرى العاشرة لهذا الحدث، علينا النضال من أجلِ تخليص البشرية جمعاء من هذهِ الأسلحة، وتقديم وثائق هذهِ الجريمة وضحاياها لتضاف لسجل نظام صدام الإجرامي، ليقدم لمحاكمة دولية لينال عقابه العادل عما أرتكبه من جرائم بحق البشرية. ورغم البعد، أبعث قبلة حبٍ ووفاء وزهور جميلة لقبري شهيدينا الغاليين ولذلك الوادي الجميل)).

هذا ماكتبته في الذكرى العاشرة. أما اليوم، وفي ذكرى الجريمة 37، حيث تفاصيل الحدث تمر مثل شريط سينمائي يعرض امام عيني، فأني اكتب عن اهمية الاستفادة من تلك الدروس البليغة، وعلى رأسها ادانة هذه الجرائم البشعة ومحاكمة مرتكبيها حتى وان اعدموا او سجنوا او عوقبوا بسبب ارتكابهم لجرائم اخرى. انّ اثارة قضية استخدام الاسلحة الكيمياوية من جديد لامر غاية في الاهمية، لكي يرى العراقيون والجيل الجديد منهم والاجيال القادمة، كما يرى العالم اجمع، أيةِ وحوشٍ ضارية كانت تحكم العراق، وما هي الجهات التي كانت تدعمهم وتزودهم بالاسلحة الفتاكة، ومن وقف صامتا ازاء جرائم الابادية الجماعية بحق العراقيين، ومن هو الذي منع الادانة الدولية لذلك النظام الارعن وجرائمه السوداء.

اما القضية الاخرى والتي لا تقل اهمية عن سابقتها، هي انصاف الشهداء وتعويض عوائلهم وانصاف وتعويض جميع ضحايا الاسلحة الكيمياوية الذين لا يزال الكثير منهم يعاني من اعراض الاصابة بها. فلنعمل جميعا من اجل ان لا تتكرر المأساة.

المجد والخلود للرفيقين الشهيدين أبو فؤاد وأبو رزكار.