من وحي أمسية انصارية، عُرض فيها فلم وثائقي عن تلك الجريمة البشعة...

هذه تأملات أعدتُ فيها كتابة ما ألتقطته ذاكرتي:

شمسٌ ، قمرٌ ، وسحاب

نجومٌ تملأُ السماءَ ضياءاً،

ووفاء .

خِلسةً ،

يزحفُ ضباب ،

بين الضلوعِ ،

مثل لصوصِ الليلِ

يُريدُ البريقَ

في عيونِ الصغار

وأوراق الشجر

وزرقة مياه الزاب

فكانت قبضة الراقد في الخيمة *

سِحرٌ، دمعةٌ

وأنشودةٌ الأصحاب

كانت الريحُ ما زالت نائمةً، تُداعب، برقةٍ، أوراقَ الشجرِ المُندى، عندما توجه الرفيق الأداري بخطى الفجر الثقيلة نحو المكان المخصص لتعليق لائحة الواجبات التي على الرفاق القيام بها في ذلك اليوم. حاول أن يشعل سيجارة بيد مازالت "رخوة" عندما هفهفت رياحٌ أطفأت آخرَ عود كبريت لديه، "اللعنة"، تلفت من حوله ليس سوى السكون، بينما كان رأسه يعج بالأفكار، ليس كما في الأيام "الأعتيادية" من معاتبات وملاحقات وشكوى "الخدمة الرفاقية"، وقطعاً ليست غراميات رفيقة دربه، ما كان يشغله في تلك اللحظات الصباحية. وإن شئتم فقد كانت، تلك التي تعصف في رأسه، هي للهموم أقرب منها للأفكار. كيف لا وقد كانت مسؤوليته، كأداري المقر، "إعاشة" وتدبير الطعام لخمسين رفيقاً بمن فيهم الضيوف، واليوم الجمعة، 5 حزيران 1987 وصل عددهم ما يقرب المائتين.

شَعَرَ بضخامة المسؤولية الملقاة على عاتقه، في تجمع هؤلاء "الكبار" في مقر زيوه بالذات، فأنتابه نوعاً من الفخر. ألتفت تجاه الصوت عندما سأل رفيق، آخر، وهو ينفض بقايا النوم العالق في ثيابه، عن كلمة السر في ذلك اليوم، يوم النكسة في الإعلام العربي الرسمي، فكان جوابه سريعاً وقاطعاً، كأنه أمراً مفروغاً منه "عدوان غاشم" قالها ليس من غير تعجب وكأن لسان حاله يقول "هسة هاي هم يرادلها روحه للقاضي"، لكنه سرعان ما أدرك تسرعه عندما أطرق ذلك الرفيق برأسه موافقاً وهو يلحظ تفهماً في عينيه شبه المغمضة.   

تُرى، هل كان في بال من أختار كلمة السر، تلك، أنها ستكون فأل شؤوم؟.

زيوه، القرية الجبلية، الوادعة، المطلة على نهر الزاب الأعلى (الكبير)، الجالسة مثل إبنة آلهة في أحضان التلال الواقعة خلف جبل "متين"، العملاق، يحميها، كأنه الأله الأعلى. زيوه كانت فَرِحة، مثل إمرأة شابة إلتقت حبيبها بعد غياب طويل، آه بينلوبي كم صبرت حتى لقيت حبيبك أوديسيوس**.

شعاعات الشمس عكست إلتماعات في عيون النبع، وعيون النهر والطير والشجر، عيون الصغار والنسوة والكبار. كادت العيون تنطق من شدة الألق، وتحلم، وتحلم، كانت غارقة في الحلم. عيونٌ وعيون، زاهية، من كل الألوان، متلألئة في كلِّ مكان مثل عيون آرغوس *** في ذيل الطاووس.

حامت في السماء طيورٌ غريبةٌ، من حجرٍ ورصاص، تنفثُ حِمَمَاً من دخانٍ، وغباراً من الموت، لا يُرى، ألقته وهربت مثل الفئران ... توجست الأرض، وأرتعشت أعشابها، كأنها عرفت المكيدة. لكن العيون المنتشرة في الفضاءات أستمرت في اللمعان، من غير خوفٍ بل كبرياء. صرخ صوتٌ، محذراً، لعله "كيمياوي" إلا إن تلك الصرخة ضاعت بين قهقات الكبار، وكركرات الصغار، وأبتعدت شيئاً فشيئاً مع رقرقات المياه الزرقاء نحو أعماق دجلة.

والبريق في العيون كان من الشدة، والنشوة، أنه حجب الضباب القاتل، المختبئ مثل شبحٍ، والزاحف بين المآقي.

كان المساء، وجاء الظلام، يسرقُ الضوءَ.

زيوه نامت، تحلم مثل فتاة، كما نامت طروادة في نشوة وهم المجد والإنتصار، قبل أن يُطفئ الأغريق، بالحيلة، النورَ في عيون الطرواديين. زيوه نامت كما نام الفتى شكيم في حضن فتاته دينة ****، يحلم، لم يفق إلا وسيوف أبناء يعقوب، بالغدر، قد ذبحت كل من كان يحلم في أرض حمور الحوّيّ.

زيوه أفاقت مذعورةً مثل هيلين الجميلة في طروادة المستباحة، مثل شكيم في أرض كنعان، ولكن بعد فوات الأوان.

ظنَّ بعض الرفاق أن التعب والنعاس هو ما يثقل الجفون. غير ان ناراً، من غير دخان، كأنها أوقدت في المحاجر، فكان الألم، شرراً يتطاير كالجنون، وتحول البريق الى لهيب، وتشوهت الوجوه وأحلى ما فيها، العيون.

أصاب العمى، الإنسان والأغصان، وأنتحرت أقدم شجرة في المكان، وتهاوت مثل إمرأةٍ غدر بها الزمان. ترك غاز الخردل بصماته الحارقة في كل الأرجاء، فكان شللاً تاماً بسط جناحيه يريد ان يطفئ النور في العيون.

وكان الصباح، فلم يكن صباحاً عند الكثير من الرفاق الممددين والمبعثرين بين الصخور وتحت الأشجار، بل كان ظلاماً في ظلام. والشمس، مانحة الدفئ والحياة، صارت بعد حين، سبباً للعذاب، فكان المصابون يختبؤون منها كما لو كانت شعاعاتها سكاكين تُغمد في البصر.

لا يضاهي رهبة الظلمة سوى الغرق!

كان الدمارُ شاملاً، في نفس الإنسان، "يا إلهي عليَّ أن أعيش بقية عمري في العتمة" هكذا خاطب رفيقٌ ذاته المعذبة، الخائفة من الظلمةِ. بينما حاول آخر أن يغلب الخوف بمزحةٍ وهو يصف الخراب "يعني كسر بجمع، تخردلنه". قاد رفيقٌ آخراً مصاباً خلف الصخور، لقضاء حاجته، فكان هذا يهمس بخجل "هل يراني أحد"، فيجيبه الثاني "لا تخف، لا أحد يراك، فالكل عميان".

لكن الرفيق الراقد في فراشه رغم شدة إصابته *، لم يكن يعلم أنه سينام ولن يستفيق، عبّرَ عن حبه وإرادته في الحياة،  وهو لم يزل يحلم، عندم أخرج قبضته من وراء الخيمة، وهو يهزها في وجه السماء.

................................

* المقصود هو الرفيق ابو رزكار الذي أستشهد هو والرفيق أبو فؤاد في هذه الغارة الوحشية.

** من ملحمة " الأوديسة " لهوميروس.

*** في الأسطورة اليونانية كانت لآرغوس مائة عين فكان يرى كل شئ، وعندما قتله هرمز بأمر من سيد الأرباب زيوس، قامت الآلهة هيرا ونثرت عيونه في ذيل الطاووس لتبقى متالقة الى الأبد.

**** أنظر الكتاب المقدس، التوراة، تكوين، الأصحاح 34 .سماء.