كانت الساعات القليلة المتبقية من تلك الليلة، تمثل المسافة بين الحياة والموت، مواجهة غير متكافئة بين ادوات البقاء البسيطة، وبين شبح الموت المدجج بكافة اسلحة القتل. الصراع على اشدّه بين ساعات اخر الليل وخيوط الفجر الفاضحة التي ستحسم النتيجة، اما النجاة او الغياب الابدي.

كنت مصابا باكثر من عشرة جروح. اجبرت على التحرك في هذا المكان الذي لا اعرف تضاريسه، مما افقدني احد اسلحتي المهمة، ان عدم معرفة المكان، يحد من امكانيات المناورة لديّ. كان علي ان اعبر النهر من اعلى المصب الجارف، فالعبور يشكل نقطة تحول في حظوظ نجاتي، ولم يبق امامي سوى ساعتين فقط، علما باني لا املك اي تصور عن نقطة العبور، ولا اعرف كم من الوقت يستغرق وصولي اليها، وكان الاصعب من كل هذا، اني  غير مسلح، و معنا شخص اخر لا يجيد السباحة!.

نهار يوم 13/ 8، كنا على سفح جبل (بيخير) قرب احدى عيون الماء المتروكة. تمتد امامنا تلال وهضاب متشابهة، واخاديد متفرعة تصل الى الحدود السورية، يفصلها نهر دجلة الى جزئين. علينا عبور هذا المدى تحت جنح الظلام، والوقت الذي نحتاجة للوصول للحدود السورية حوالي 15 ساعة، ولان ليل آب قصير، فعلينا ان نسير لمدة ليلتين.

في عمق هذه المنطقة المتكونة من التلال والاخاديد، يقبع كهف، كان ملاذا لرعاة الاغنام و الماعز، لا يشبة الكهوف التي طالما سكناها، والتي كانت محطات استراحة ضرورية لنا. تسللنا ليلة 13 / 8 من سفح الجبل باتجاه ذلك الكهف، فوصلناه قبل الفجر. كانت ارضيته مرتفعة بسبب تراكم فضلات الحيوانات، ورائحته تزكم الانوف، لكننا نمنا، وعلينا ان نمضي النهار كله هنا، ثم نتحرك ليلا.

عند منتصف النهار، شعرنا بأن هجوما كبيرا شنته علينا انواع مختلفة من الحشرات، وخاصة القراد، وكنت في البداية قد فشلت بالقبض على احداها التي انغرست في جلد يدي ما سبب لي الكثير من الالم، لكني لم استسلم، ففصلت جسدها عن فكيها بسكين حادة!، وهكذا تعاملت مع البقية، فكان نهارا طويلا وثقيلا ولا يمكن نسيانه.

عند حلول الظلام، تحركنا باتجاه الاراضي السورية، وكانت امامنا ثلاث عوائق، نهر دجلة، وشارع النفط، وشارع الحدود. على جرف دجلة تكون الذاكرة القريبة حاضرة بقوة، حيث الخوف والتوجس والتردد. نهر دجلة ذكرني بليلة 25 / 9 / 1984 التي خسرنا فيها نصف عدد مفرزتنا التي قوامها 20 مقاتلا بكمين غادر ومحكم.

ركبنا العبّارة (الجلج)، بعد ان بذلنا جهودا مضنية في نفخ الاطارات الكبيرة، الذي يسبب تورم البلاعيم، وآلام طبلة الاذن. كان الوقت منتصف الليل تقريبا عندما وصلنا الى الضفة الاخرى، وامامنا مهمة اخرى اكثر خطورة، وهي عبور شارع النفط، والمسافة إليه حوالي ساعتين، وعندما وصلنا الى احدى التلال وقعنا في كمين، وأُصيب احدنا بجرح خفيف، ولكي لا تفقد المفرزة توازنها وتتشتت في الظلام، تحركت الى المقدمة، وقصرت المسافات بيننا، ثم اتجهت جنوبا بعيدا عن الطريق الاعتيادي، مبتعدين عن كثافة النيران، بعدها عدت الى الجريح واخذت حقيبته التي لها قصة اخرى.

شعرت ان مقدمة المفرزة قد اضلّت الطريق والاتجاة، وراحت تدور في مكان، قد لا نخرج منه حتى الصباح، علما بان ساعات الليل اوشكت على النهاية، وان بقاءنا في هذه المنطقة يعني هلاكنا، فتحركت الى مقدمة المفرزة من دون علم احد بهذا الضياع، وصححت الاتجاه نحو اقرب نقطة ممكنة لعبور الشارع. بعد ساعة من المسير، توقفنا لكي نتاكد من جانب الشارع الاخر وخلوه من الكمائن، لكن انعدام الرؤيا، جعلني اتخذ قرارا بعبور الشارع لوحدي، فعبرته من تحت الشبك، ثم عدت وعبرته بطول قامتي، ثم دست بقدمي على الشبك وطلبت من المفرزة العبور والتجمع في الاخدود الملاصق للشارع من الجهة الاخرى.

عبر الجميع، ولم يبق الا انا ومعي اخر، وفي هذه اللحظة انهمر علينا وابل من الرصاص، فانبطحنا على رصيف الشارع حتى توقف الرمي، ثم سمعنا اصوات حركة المفرزة، فطلبت من صاحبي عدم الحركة حتى تبتعد المجموعة. مرة اخرى انهمر الرصاص، ثم وصلت عجلات عسكرية وانتشر الجنود على طول الشارع، فوقعنا بين كماشتين.

كان عددنا 13 رجلا، ولا نملك من السلاح الا ثلاث بنادق وبعض القنابل اليدوية، هكذا جرى العمل عند العبور الى سوريا، ثم نعود الى العراق محملين بالاسلحة. عليّ ان اتصرف، وانقذ المفرزة، ولحسن الحظ، كانت معي قنبلتين يدويتين، فوقفت امام الجنود، ورميت احداهما في وسطهم، وانسحبت مع صاحبي الى عمق الاراضي العراقية، وبهذه العملية اوحيت لهم باننا انسحبنا الى العراق، بينما استطاعت المجموعة، وخلال ساعة من المسير ان تصل الى الاراضي السورية، لكنها خسرت احد افرادها.

اما انا وصاحبي الذي لا يجيد السباحة، فعلينا العبور في الليلة التالية.

النصير الشيوعي العدد 26 السنة الرابعة أيلول 2024