التحقيق الأول مع اللاجئين في اوردكاه خوي / الحلقة الثالثة

 

معسكر (خوي) لللاجئين عـزل ساكنيه عزلاً تاماً عن العالـم كله، لا شيء يمتـــد أمام أعين اللاجئين غير السـماء والصحـراء والجبـال الشـاهقة، مكان ينعـدم فيـه التاريـخ، فـلا أحـد يعـرف الزمن ولا المسـتقبل المجهول. ولا يعرف اللاجئ متى ينتهي مصيره، فمن شروق الشمس وحتى غروبها فهناك أسئلة كثيرة ومعاناة يومية وكوابيس لكل لاجئ.

الجبال الشاهقة والحيوانات المفترسة والصحراء والأسلاك الشائكـة هي الأشياء الوحيـدة المحيطة بجـدران المعسكر واللاجــئين، وكلما مرت الأيـام يـزداد اللاجئ تعطشاً للحريـة ولممارسة حياتـه العاديـة، القضية الوحيدة المشتركة بين اللاجئين هي قضية الصراع اليومي مع الألم ولوم النفس، وكيف خـدع ووصل الـى هــذا المكان، ولا شيء يبعـد الألم واللــوم عـن النفس غيـر البقـاء على قيـد الحيـاة والأمل في المسـتقبل المجهول، أحداث، وقائع، أفكار، هموم وصراع هي جزء مما تبقى في الذاكرة طيلـة السنين الماضية، أنها مزيج خالص بين العواطف والأحاسيس التي تحمـل مشاعر الخـوف، والقلق والمزاج الصعب تدون في هــذه السطور.

في الأيـام الأخيـرة من شهر آب / 1986 كان الوضع في معسكر خـوي لللاجئين يغلي ويسير نحــو

الأنفجـار والحديث يتم في كل أرجــاء المعسكر بسبب سـوء التغذيـة وقـلة الخدمات المقدمة لهــم والجميع ينتظر مجئ اللجان التحقيقية للقيام بعملها.

باشرت هذه اللجان بعملها مباشرة حال وصولها يوم 31 / 8 / 1986 لتقابل اللاجئين وفق القوائم المعــدة مسبقا"، كانت اللجنة التحقيقية تتكون من ثلاثة أشخاص أثنان من الأيرانيين ويتحدثون الفارسية وهمـا من دائرة الأمن الأيراني ( السافاك ) والمخابرات الأيرانية أما الشخص الثالث وهو يجيد اللغة العربية وهو من أهل النجف وهذا واضح من لهجته النجفيـة المعروفة وتبين لنا لاحقـــا" انه من ( المجلس الأعلى لما يسمى بالثورة الأسلامية في العراق ) ( جماعة عبد العزيز الحكيم ) الذي كان يعتبر نفسه ممثلا" للعراقيين في ايران ولكن تعامله الحقيقي معهم كان أكثر قسوة من الآخرين.

بعد عدة ساعات من الأنتظار جاء دورنا للتحقيق فكانت الأسئلة في البداية روتينية عن الأسم الثلاثي، مكان السكن، العمل، الأنتماء السياسي، الموقف من الحرب، رأيك بالأمام الخميني؟ رأيك بصدام حسين ؟ لماذا أخترت أيران كبلد للجوء؟ هل تود البقـاء في أيران أم لا ؟ هل لديــك رغبة بالتطوع بجيش القدس؟ الى غير ذلك، وكان آخر الأسئلة الموجهة لنا ما هو دينكم؟ وعندما أجبتهم باننا من الصابئة المندائيين تغيرت الأسئلة وأخذت تتركــز وتطرح مباشرة من قبل ممثـل المجلس الأعلى عن رأينـا بالدين الأسلامي، ومن هو نبيــنا؟ وهل لديكم كتـاب سماوي وما اسمه؟ لماذ لا تتحول الى الديـن الأسـلامي وهو آخر وأفضل الأديان؟ وغيرها من الأسئلة الأستفزازية، وبدوري أجبت بإقتضاب على هذه الأسئلة بأجابات هادئـة حيث كنا نـدرك ان الغرض من توجيه هذه الأسئلة هو أستفزازنا بأي شكل وايقاعنا في فخ مرسوم وهذا ما كنا مستعدين له مسبقا" ومتفقين على تجنبــه ولكن أجابتي حول تغيير الدين دفعني لأن أتخذ موقفا" آخر أمام اللجنة ولكشف المتاجرة بالدين من قبل الآخرين ونحن نتعرض يوميا" الى حياة قاسية بسبب قلة الخدمات المقدمة وكان كلامي موجها" الى ممئل المجلس الأعلى للثورة الأسلامية لكونه عراقي الأصل ويتحدث باللغة العربية.

ـــــ قلت له أعتقــد من لهجتــك انك عراقي ومن النجف بالتحديــد، وليس هنـاك أي عراقي لا يعرف من هـم أبناء العراق وخاصة الصابئة المندائيين، فهم أصل العراق وحضارته هــذا اذا كنتم تعيشون في العــراق، كما وانكـم تعرفــون أيضا" ان نسبة كبيـرة من اللاجئيـن الموجــودين الآن في المعسكر هــم من المسيحيين والصابئـة والأجـدر بكم بـدلا" من أن تطلبــوا منا نحـن اللاجئيــن تغييـر ديانتنــا الى الأســلام وهـذا خــلاف لقواعـد حقـوق الأنسان والقوانين الدولية عليكم أن تتعرفوا على معانات اللاجئين وهم ضيوف عندكم وقد أوصى بهــم الديـن الأسلامي فهــم يعانـون منـذ أسابيع من وصولهــم لسـوء التغذية ونقص حليب الأطفــال وعــدم توفر المـاء الصالح للشرب وأنعـدام الخدمـات الصحية وعدم وجــود الحمامات ولم تتوفر لهـم أبسط الخدمات الضرورية حتى يشعر اللاجئون أنهم ضيوف في جمهورية أسلامية دعت العراقيين للجوء اليها للتخلص من نظــام صـدام حسين لا لتغييـر الديـن، وبأعتباركــم مسؤوليــن وممثليـن عن الحكومة فأنكــم تتحملون جـزء من مسؤولية ما يحدث في هــذا المعسكر من مآسي ترتكب تحت أسباب مختلفة، لقـد تـم التعامل مع اللاجئين كأسرى حرب وليس كلاجئيين وهــذا خلاف للقوانين الدولية فأين العدالة وسماحة الدين الأسلامي، أرجوكم القيام بجولة في المعسكر وأستمعوا لأراء اللاجئين ونوع الخدمات المقدمة لهم ومن ثم قرروا ما ترونه مناسبا" .

ـــــ هل انت وزوجتك تشعر بالمعاناة مثل اللاجئين الآخرين؟

ـــــ نعم اشعر وزوجتي بنفس المعاناة والجميع في المعسكر وما طرحته عليكم هو الحقيقة.

ـــــ لماذا لم يطرح أحد غيرك من الذين اجرينا المقابلة معهم هذا الموضوع ؟ من كلامك هذا نعتقد وجود عملاء لنظام صدام حسين في المعسكر وصلوا بحجة لاجئيين ويرغبون بتشويه صورة جمهورية أيران الأسلامية أمام العالم ويبدو لنا أنك تؤيدهم فأما انك اكثر جرأة من الآخرين أو أنك واحدا" منهم !!! وانت تعرف عقوبة عملاء صدام والتجسس ان ثبت ذلك عليك.

في هذه اللحظات تذكرت ما قالـه الشاعر ( رومي بن سبهان الشعلان البريجي ) وهو من أهالي سوق الشيوخ عندما أستدعي من قبل أحد شيوخ ( المنتفك ) وهو( ناصر باشا السعدون ) وطلب منه ومن داود اليهودي أن يأتوه بم لا ينظم الشعر ولا يجيد الغناء حيث قال :

آه يويلـــي.......

يباشـا الوكـت شـوف شـلون علبـاي

وجثيـر من العـلل بالكـلب علبـاي

أيتخـيلي يكـص السـيف علبـاي

شـيخـلصني لـون تغـضب عليـة

آه يويلــي...

ـــــ أرجوا وقبل ان تتسرعوا وتحكموا على ذلك يمكنكم القيام بجولة ويمكنني مرافقتكم ان وافقتم لتشاهدوا بأعينكم المعاناة التي أخبرتكم عنها ويمكنكم عندها أتخاذ القرار المناسب.

نظر المحققون الى بعضهم وهم يتحدثون فيما بينهم بالفارسية وبعد برهة ......قالوا هل أنت متأكد؟

ـــــ نعم متأكد ويمكنكم التأكد من ذلك بأنفسكم ...

قررت اللجنة وقف المقابلات الى أشعار آخر وبعد عدة ساعات من الغياب عن الأنظار جاء أثنان من الحرس يدعوني لمرافقة اللجنة للقيام بجولة سريعة في المعسكر للأطلاع على الأخفاقات وسوء الأدارة ونوعية الطعام المقدم والمياه القذرة... الخ وسط الخوف واستغراب اللاجئيين الذي اعتقدوا انه تم القاء القبض عليّ كعميل لصدام حسين.

بعد جولة سريعة تم فيها مقابلة العشرات من اللاجئين ووقوفهم على واقع الحال مباشرة ولغرض أمتصاص التوتــر في المعسكر وبعــد مشـاورات مطولـة استمرت عدة ايام كانت باكـورة العمل الـذي قامت به اللجنـة هو أرسال اللاجئين تحت حماية مشددة من قبل حرس الثورة الى الحمامات الأهلية في مدينة ( خوي ) لغرض الأستحمام وتم نقل اللاجئين بالباصات وعلى وجبات أستمرت ثلاثة أيام وأعطيت فترة ربع ساعة فقط لكل رجل ونصف ساعة لكل سيدة مع اطفالها لغرض الأستحمام وأزالة ما علق بأجسامهم من أوساخ وأتربة خلال الأســبوعين الماضيين على ان يتم تحسين الخدمات الأخرى لاحقا" بالتدريج وفعلا" لاحظنا في الأيام التالية تحسن بسيط في نوعية الغذاء المقدم فكان الفطور عبارة عن رغيف من الخبز وقليل من الجبن وقدح من الشاي وظهرا" تم اعطاء كل عائلة برتقالة أو تفاحة أضافة ولأول مرة تم توفير بودر حليب الأطفال وبكمية محــددة لكل طفل ووزعت قطعتين صغيرة من اللحم لكل عائلة اسبوعيا"، ولكن بعد أنتهاء اللجان التحقيقية من عملها ومغادرتهم عاد الوضع في المعسكر الى وضعه الأول وبدأ التوتر من جديد يسود بين اللاجئين وأدارة المعسكر.



يتبع الحلقة الرابعة