منذ تأريخ 31 تموز / 1935، يوم صدور أول صحيفة ناطقة باسم وليد شعبنا الجديد، بعد أقل من عامِ من إعلان تأسيس (الحزب الشيوعي العراقي)، باسم (كفاح الشعب)، بدأت مسيرة الصحافة الشيوعية، التي اتسمت مراحل عملها بالمصاعب والعقبات. فقد عانت هذه الصحافة من ممارسات وسياسات القمع والمنع ومصادرة الحقوق. وكانت في أغلب سنوات عمرها المديد، وتحت أسماء مختلفة، تلجأ إلى العمل السري، خلال مسيرة تقدر بأكثر من 65 عاماً من العمل السري.
لقد دشنت الصحافة الشيوعية في العراق، انتقالة حادة وحاسمة، وتغييراً نوعياً في طابع وصياغات العمل الصحفي، والمنشور الطباعي بشكل عام، بل والنهج الإعلامي على العموم. فلأول مرة يشهد الشارع صحافة تتميز بشكلها ومضمونها القريبين من حس ونفس المواطن العادي، وبعكسها الموضوعي الجاد لمشاعر وحاجات أوسع الجماهير في البلاد، بل وفي منطقة الشرق الأوسط. لقد واكبت التطورات والأحداث الاجتماعية والسياسية، عبر مراحل مختلفة من تأريخ البلاد الحديث.
شكلت (اتحاد الشعب) التي بدأت الصدور في عام 1956، ثم (طريق الشعب) بشكل سري في عام 1961 بعد غلق (اتحاد الشعب) من قبل حكومة عبد الكريم قاسم، وقبلهما: القاعدة، والصحيفة والشرارة، وكل المطبوعات الصحفية الشيوعية، منهلاً ومنبعاً للفكر ونشر الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي، وعكست متطلبات وتطلعات الغالبية الساحقة من المواطنين، وخاصة العمال والفلاحين وكل شغيلة العمل والفكر والثقافة الوطنية. وتواصل اليوم النهج والتقاليد ذاتها صحيفة (النصير الشيوعي)، التي يتزامن عيد صدورها الرابع مع يوم ميلاد الصحافة الشيوعية في العراق.
عاملٌ هام وأساسي في مسيرة حياتي، وتشكيل وعيي ونشاطي!!
طبعاً كانت هنالك عوامل وحلقات ووقائع سياسية واجتماعية عديدة متباينة ومتداخلة، أثرت وساعدت في تشكيل وعيي وطبيعتي وطابع مساراتي في الحياة، كإنسان وثم كصحفي وشاعر. وكان للصحافة الشيوعية ومنذ أولى خطوات تعرفي عليها، عندما حملت صحيفة (اتحاد الشعب) التي صدرت علنية بعد ثورة الرابع عشرة من تموز عام 1958، وفي وقت مبكر من حياتي، الدور الكبير والحاسم في هذا التشكل للوعي الذاتي، وفي تحديد ملامح طبعي وطباعي وانطلاقاتي الفكرية والأخلاقية. بل وهويتي الإنسانية بشكلٍ عام.
كنت طفلاً في السنة الثامنة من عمري، في الصف الثاني ابتدائي، حين وجدت نفسي وسط الجماهير المبتهجة والغاضبة التي خرجت ومرت قريبا من بيت ولادتي ونشأتي في منطقة الكرخ / الدوريين، احتفالا بانفجار ثورة الشعب، فجر يوم الرابع عشر من تموز عام 1958.
وفي وقت لاحق لهذه الأحداث بدأ أخي الأكبر، سلمان داود السعدي، والذي عرفت بعد الثورة أنه من نشطاء اتحاد الشبيبة الديمقراطي وفي الحزب الشيوعي العراقي، بتكليفي بالذهاب إلى ساحة الشهداء لشراء صحيفة (اتحاد الشعب)، والتي بقيت حروفها الحمراء لاصقة بذاكرتي طيلة حياتي. كنت أحملها فرِحاً بتقليب صفحاتها وأنا أسير في عودتي إلى البيت. نعم شكلت هذه الحالة حلقة أخرى من حلقات الوعي، ومع نموي واصلت متابعة المنشورات الشيوعية. وفي السبعينات بدأت الصحافة الشيوعية تصدر علنا، (طريق الشعب)، و(الفكر الجديد) ومجلة (الثقافة الجديدة). كنت أحرص يومياً على اقتناء الجريدة الشيوعية ذي العنوان الأحمر المتميز، وقراءتها أمام أصدقائي المتنوعين في مناهلهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية (قوميون، أخوان مسلمون، ويعثيون).
في سبعينات القرن الماضي، صرت متعلقاً وقريبا من صحافة ومنشورات الحزب السرية والعلنية، ولن أنسى أولى مشاركاتي حين نشر لي نص شعري في باب أوراق الاثنين، وبعد إنهائي للدراسة في معهد إعداد المعلمين، وتعييني في منطقة الجزيرة في محافظة نينوى عام 1970، وبعد معايشتي للفلاحين الفقراء فيها، كتبت أولى مقالاتي الصحفية عن أوضاعهم واستغلالهم المتنوع، والتي نشرت في صحيفة (طريق الشعب) باسم "ابن الجزيرة". كما عملت في المكتب الصحفي للمحلية بمعية الفقيد الجميل أبو هافال (سعيد بامرني)، وكان يسكن في محافظة دهوك، ويعمل في مركز الموصل معلماً.
وشكلت مرحلة عيشي في العاصمة اللبنانية بيروت أثناء الحرب الأهلية، وحتى حصارها لمدة أكثر من سبعين يوماً من قبل الجيش الصهيوني الإسرائيلي، دفعة هامة لي. فقد عملت في الصحافة الفلسطينية، إضافة لعملي في صحافة الحزب وبالأخص في (مجلة الحقيقة)، لسان حال المنظمات الديمقراطية هناك، والتي رأس تحريرها أولاً الصحفي المبدع فقيدنا عدنان حسين وبعده موسى السيد. وحين اضطرت المقاومة الفلسطينية للخروج منها عبر البواخر وكنت في آخرها، وتوجهت بنا إلى ميناء طرطوس في سوريا، بدأت مسيرة جديدة من العمل والنشاط الصحفي والإعلامي في صحافتنا الشيوعية.
التحقت بحركة الأنصار الشيوعيين، وتعززت خلالها توجهاتي الإعلامية – الصحفية، فإضافة لمسؤوليتي في العمل الثقافي والإعلامي لسرية المقر في منطقة (زيوا)، بدءاً من أواسط عام 1984، كنت أعمل في مكتب أعلام القاطع، وعضوا في تحرير صحيفة (النصير)، ومثلت المكتب في تشكيلة أعلام الجبهة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني (جود). وهنا اكتسبت تراكما جديداً في التعامل مع واقع جغرافي وحزبي جديد، تطلب تعاملات إعلامية متميزة.
وفي دمشق، وبعد انتهاء فترة الأنصار المجيدة، وعودتي من موسكو، وبعد فترة من العيش في مدينة حلب لضرورات حزبية، بدأت العام (1990 -1994) العمل في مكتب أعلام الحزب في الشام، وكنت على صلة مباشرة بعمل طريق الشعب والثقافة الجديدة وخاصة في الفترة التي بقينا خلالها أنا والرفيق المربي والإنساني الكبير غانم حمدون والفقيد حامد العاني، وكنت ملتصقاً بشكل أكبر في تحريرهما وطباعتهما، وتوزيعهما والعمل الإعلامي للحزب بشكل عام. بعملي جنب الرفيق فقيد الصحافة الشيوعية الدكتور غانم حمدون ورفاق آخرين، تعلمت وتكرست لدي مسؤولية العمل الجاد في تحرير صحافة الحزب. وبعدها، وحتى بعد سفري إلى إيطاليا مضطرا، واصلت الكتابة في رسالة العراق وطريق الشعب وفي الثقافة الجديدة ولو بدرجة أقل.
شكلت فترة عملي المباشر، وبتكليف من ل.م للحزب عام 1991 - 1992 في بدء بث إذاعة الحزب (صوت الشعب العراقي) من مدينة شقلاوة، مرحلة هامة ومؤثرة في روحي وتكويني الصحفي والإعلامي. كنت أحرص خلالها وبأشراف مباشر من الرفيق الفقيد رحيم عجينة ومشاركة الرفيق الفقيد عبد الرزاق الصافي، على تحرير وأعداد المواد والنشرات الإخبارية، والبرنامج اليومي للإذاعة، وثم بثها بصوتي إضافة لصوت الرفيق الجميل علي مالية (أبو الأوس)، وأبو حذام (ماجد زيدان) وثم شباب آخرين. وبعد انتقالي إلى إيطاليا كنت أعود خلال فترات الصيف لمواصلة العمل في صحافة وإذاعة الحزب.
ولم تنته المسيرة هنا، فبعد سقوط نظام الطاغية ومنذ منتصف عام 2003، التحقت بالعمل مع صحافة الحزب، وخاصة في تحرير (طريق الشعب). كانت فترة محملة بالتعقيد والعقد والتعارضات والمصاعب الجدية، ربما هي الأصعب طيلة المسيرة في العمل مع الصحافة الشيوعية في العراق ولأسباب عديدة لست هنا في معرض ذكرها ..!.
هي مسيرة عمدتها المصاعب، ولكنها محطات أغنت روحي، وأنضجت توجهاتي منذ طفولتي وصباي وحتى لحظتنا الراهنة، حيث لم أعد مساهماً مباشراً، الاّ أني أتابع وبشكل جدي النجاحات والتطورات في عمل رفاقنا في ميادين الأعلام والصحافة الشيوعية، والتطورات التي تشهدها في نهج توسيع العمل وشموله ميادين محدَثة ومؤثرة، وربما شهدت دخول دماء شابة تنوعت مجهوداتها وأشكال إبداعاتها، وصبت في تطوير الصحافة وميادين الإعلام شكلاً ومضمونا، وفي تنويع الوسائل بالاعتماد على اتساع وتطور ميادين التواصل الاجتماعي.
في هذه المناسبة، لا يسعني إلا أن أحيي رواد الصحافة الشيوعية، بدءاً من الرفاق المؤسسين، حيث مثل الرفيق الخالد فهد فناراً في العمل الصحفي الجاد، ورسم هو ورفاقه الأبرار طريقا متميزاً للصحافة الشيوعية في العراق. كما تابع هذه المسيرة رفاق ضحوا وابدعوا، وساهموا بخلق أجيال جادة ومبدعة رفدوا ليس فقط الصحافة الشيوعية بل والصحافة الوطنية بكل ما هو جيد وجاد. وهنا لا أستطيع أن أذكر الجميع، لكنني أذكر بالفخر والاعتزاز، الرفاق: عبد الرزاق الصافي، فخري كريم، عادل حبة، رحيم عجينة ومن تربى على أياديهم من مبدعين حملوا راية الشيوعية وصحافتها في العراق وفي المنطقة باسرها.
وطوبى ليوم عيد الصحافة الشيوعية، التي تبقى إشعاعاتها مشرقة في سموات العراق، بل وفي عموم منطقة الشرق الأوسط، كما أحيي صحيفتنا (النصير الشيوعي) في عيدها الرابع.
رومــــا 29 . تموز / . 2025