دامت إقامتنا في معسكر ( وارمين ) للاجئيين العراقيين أسبوعا" كاملا" بمعاناة لا يمكن تصورها واستمر هذا الحال حتى يوم الثامن عشر من / أيلول / 1986 حيث بلغ جميع اللاجئين بالأنتقال الى معسكر آخر يدعى معسكر جهرم ( أوردكاه جهرم ) الذي يقع في الطرف الجنوبي الصحراوي من ايران.
بعد وصولنا لمدينة ( جهرم ) صباح يوم 18 / 9 / 1986 اتجهت الباصات التي تقلنا لطريق آخر صحراوي يؤدي لخارج المدينة ولمسافة تقدر بعشرون كم ثم توقفت امام ما يشبه معسكر للجيش تعلو واجهته لوحة كتب عليها ( اوردكاه جهرم )، طلب من الجميع النزول في طابور يشبه ما حدث لليهود في المعتقلات النازية في الحرب العالمية الثانية وكان بأنتظارنا العديد من أصدقائنا اللاجئين الذين سبقونـا بالوصـول اليه، توجه الجميع لداخل المخيـم عبر غرفة الأستعلامات وتم التأكــد من الأسماء في القوائم الجاهـزة وبعد الظهر تم توزيع اللاجئين على أماكن سـكنهم وأتخذت كل عائلتين غرفة واحدة صغيـرة خالية مساحتهـا لا تتجـاوز 3× 3 متر مربع بأنتظار رحمة أدارة المخيـم وما سـيوفرون لللاجئين من إحتياجات ظرورية للأستقرار المؤقت.
خصص معسكر ( جهرم ) الواقع في صحراء جنوب أيران للعوائل فقط، بعد ان تم عزل الشباب وارسالهم لمعسكرات اخرى بعيدة وهو معسكر محاط بالأسلاك الشائكة وبسلسلة من الجبال الوعرة المتداخلة التي تشرف على المخيم ومن كل الجهات، وتحت حراسة مشددة من قبل حامية عسكرية خاصة.
ومخيم ( جهـــرم ) معسكر مغلق معزول مخصص لللاجئين من كافة الأطياف، قــد ينسى اللاجـئ أحيانــا" انه مسجون داخلــه طوعيا"، الخوف من المستقبل المجهول، عذاب يومي، سوء التغذية، قلة في التركيز وشرود في الذهن، لا يعرف اللاجئ متى ينتهي التحقيق معه ليغادر ايران وليس امامه غير الصبر.
في هذا المخيم الغرف رطبة متجـاورة لبعضهـا وذات ابواب حديديـة وتفتقد لأبسط الشروط الصحية، لا أثر لوجود الماء الصالح للشرب ومصدر شرب الماء الوحيد في المخيم هو الحنفيات الموزعة في المخيم ومصدرها الأبار الأرتوازية وهي مملوءة بالرمال والحصى، ونتيجة لأستعماله أصيب الكثيرون من اللاجئين بآلام في المعدة والأسهال في الأيام الأولى لوصولهم.
لم نذق الطعام منذ ليلة مغادرتنا معسكر ( وارمين ) وأصابنا الجوع والأرهاق، أسرع احد الأصدقاء ليجلب لنا رغيفين من الخبر وهو ما تبقى من حصة الخبز لعائلته لهذا اليوم وترمس شاي وكان لها أثر كبير للتخفيف من الجوع الذي كنا نعاني منه.
قاربت الساعة الخامسة عصرا" ونودي على اللاجئين بالأصطفاف في طوابير وبـدأ بتوزيع البطانيات العسكرية القديمة القـذرة على اللاجئييــن وهي من مخلفات معسكر الجيش السابق ثم تبعها بأيام بساعات توزيع ( الدواشك ) الأسفنجية الخفيفة المتهالكة حيث لم نكن نملك غير ملابسنـا الشخصية من الزي الكردي وهي للنوم وممارسة الحياة اليومية.
يبلغ عدد سكان المخيم أكثر من ألفين لاجئ غالبيتهم من العوائل المهجرة وهــذا العدد في تزايــد عندما تصل أعــداد من اللاجئين الجـدد او ينقص بمغادرة بعضهم لهذا المخيم بعد انتهاء الأجراءات التحقيقية. والمنفذ الوحيد للمخيم الذي يقع تحت حراسة مشددة من قبل حرس الثورة نحو الخارج هو باب دخول المخيم ( باب النظام ) لمراقبة دخول وخروج المقيمين في المخيم وفق تصريحات خاصة.
في اليوم الثاني أخذت أدارة المخيم بتوزيع المواد الغذائية على اللاجئين في غرفهم وكأنهم سجناء ينتظرون السجان لتوزيع وجبات الطعام، وهي عبارة عن رغيف من الخبز لكل فرد يوميا" وقليل من التمـر واللبن وأستمر الوضع على هــذا الحال لعـدة أيام حتى تم فتـح حانوت صغير يتـم من خلاله توزيع الأحتياجات الضرورية الأخرى مثل أدوات طبخ بسيطة ومدفأة نفطية للتدفئة والطبخ ومواد تموينيـة كل اسبوعين مكونــة من الحبوبيات مثل الفاصوليــا اليابسة واللوبياء الجافـة والعـدس والحمص وقليل من السـكر والشاي ومعجـون الطماطا و25 غم من الجبن لكل لاجئ.
ثم أصبحت هــذه المواد توزع بالكوبونات أضافة الى رغيف خبـز لكل لاجئ يوميا" من فرن المعسكر وهو المصدر الوحيد لتوزيع الخبز لسكان المخيم وعلى كل لاجئ ان يقف ساعات طوال في الطابور تحت الشمس للحصول على حصته.
الحيـاة لا تطاق في المخيم الذي يضم لاجئيين من أطياف وقوميات وأديان مختلفة ولا يمكن الأندماج معهم خاصة ونحن القادمين من فصائل الأنصار وعلينا ان نلتزم الحـذر في كل كلمة وخطـوة نخطوها، وفي هذه الظروف ألتقينا صدفة مع النصير( وليد) الذي كان معنا في فصيل حماية قاطع بهدينان مع عائلته، كان خوفنا وترددنا مشتركا"، أوصيته بالحذر وعدم اللقاء بنا ألا عند الحاجة الظرورية وتجنب الحديث عن الأنصار في أي تحقيق قادم فعيون النظام الأيراني ومخابراته منتشرة في كل زاوية من المعسكر وهذا ما حصل.
كانت أدارة المخيم وعبر مكبرات الصوت تدعوا الشباب المقيمين في المخيم وغالبيتهم ومن سكان الأهوار الشباب المعدمين أو ما يسمونهم ( بالتبعية الأيرانية ) للتطوع في الجيش والتوجه لجبهــات القتال بعد ممارسة كل انواع الضغط والأكراه عليهم وعلى عوائلهم وارسالهم لجبهات القتال بدون تدريب يذكر وهم يحملون الخرق الخضراء حول جباههم ووضع تحت كل خرقة مفتاح الجنة كما قيل لهم وبعد اقل من ثلاثة اسابيع من إلتحاقهم بجبهات القتال تسلمت عوائلهم أشلاء جثث ابنائهم مقطعة في اول معركة دخلوها. وتم اعتبارهم شهداء من أجل الحسين وآهل البيت، وبعد عـدة أيام شاهـدت صـورهم وبشكل سري وهم مقطعي الأوصال ومشوهين بعد افتراس ما تبقى منهم من قبل الحيوانات المفترسة في ساحة المعركة وتم التعرف عليهم من الأرقام المعلقة في أعناقهم.
في 30 / ايلول / 1986 تم توزيع فورمات على كل اللاجئيـن وتم تبليغنا من قبل ادارة المعسكر بمواعيد للذهاب الى وزارة الداخلية في طهران لغرض اجراء تحقيق آخر هناك لا يختلف عن التحقيقات الخمسة السابقة في معسكر خوي.
في 13 / تشرين الاول / 1986 وصلت الى المخيم لجان تحقيقة لغرض أجراء تحقيق آخر مع كل اللاجئين من جديد وعلى ضوئها وفي 24 / 12 / 1986 تم التوجه الى وزارة الداخلية الايرانية في طهران للحصول على موافقة مغادرة ايران نحو سوريا وهي فرصة لا تعوض بعد اكمال المعاملات الخاصة بالسفر والحصول على موافقة السلطات السورية
وهنا بدأت محاولاتنا الجدية للبحث عن الأقارب الموجودين في مدينة ( الأحواز ) ولا نملك اية معلومات عنهم وهم املنا الوحيد بالمغادرة واستمرت هذه المحاولات اكثر من شهرين حتى تكللت محاولتنا بالنجاح وتمت زيارتهم لنا في معسكر ( جهرم ) بعد ان علموا بتواجدنا في المعسكر وتم عمل كفالة لنا لمدة شهر للخروج من المعسكر ولمرافقتهم الى بيوتهم في الأحواز وتبعها زيارتنا لهم في الاحواز عدة مرات لغرض التنسيق معهم لمغادرة ايران لتبدأ صفحة جديدة من الحياة نحو المستقبل المجهول .
يتبع في الحلقة السادسة
السيول تجتاح معسكر جهرم لللاجئين