تركتُ الوطنَ مُرغمًا إثرَ الهجمةِ الفاشية التي شنّها النظامُ المقبور على حزبنا الشيوعي العراقي عام 1978، وحصلتُ على عملٍ كخبير زراعي في شركة للصناعات الغذائية (سوجيديا)، بامتيازات كبيرة، وعقدٍ مدته أربع سنوات. لكنني، أُسوةً بنخبة من الرفيقات والرفاق، تطوعتُ للذهاب إلى كردستان، والالتحاق بصفوف أنصار حزبنا في صيف 1980. وبعد مسيرة دامت 45 يومًا، وصلت مفرزتنا إلى قاعدة "كوماته"، يقودها الشهيد أبو مكسيم. كانت رحلةً شاقّة، لكنها عذبة، بما حفلت به من حماس، ودفء رفاقي، وروح شبابية مليئة بالبهجة، والمحبة، والمقالب الطريفة.

حين أتذكّر تلك المسيرة، أنحني بخشوع لذكرى الشهداء والراحلين الذين قاسموني تلك المواقف: ظافر السلامي، ورعد عبد الكريم، وصامد الزنبوري، ومازن كمال الدين، وعادل ليبرالي، وأنور طه، وأبو شاكر، وغيرهم. وأُحيّي بشوقٍ ومودّة الآخرين، متمنيًا لهم دوام الصحة، ولي يقينٌ بأن تضحياتهم الغوالي لم ولن تذهب سدى. إنها ملحمة سُجّلت في ذاكرة هذه البلاد العريقة.

بعد التحاقي بفترة، كُلّفتُ مع العزيزين، الفنان الكبير قاسم الساعدي، والصحفي علي الصراف، بإصدار صحيفة باسم قاطع بهدنان، وهي صحيفة النصير. كنا ننحت في الصخر لإنجاز هذا العمل، إذ لم نكن نملك سوى أقلامٍ وبضعة أوراق. ثم التحق بخلية النحل هذه الرفاق: علي الربيعي، ومصطفى ياسين، وداود أمين، وهاشم جمعة. وتوسّع النشاط ليشمل إصدار ملحق باللغة الكردية، وصحيفة بالسريانية، وملحق لثقافة الأنصار ونتاجاتهم (وخاصة الشعر والرسم)، وعمود نقدي، وعددٍ من الكتب والكراسات والدواوين الشعرية. وفي آذار 1982، أقمنا مهرجانًا ثقافيًا فريدًا في تنوعه (مسرح، شعر، معرض تشكيلي، موسيقى)، ومتميّزًا في مكانه الموحش بين الصخور، الذي تحوّل مشرقًا ببسالة الشيوعيين.

من مفارقات العمل حينها، أن نحصل على آلة طابعة تخلو من حرف "الألف"، ما أجبرنا على كتابة هذا الحرف بالقلم على الستينسل، ثم نحفره بالقلم الدبوس. وحينها فقط، عرفتُ كم هو مهم هذا الحرف في اللغة العربية. اختصار المواد في الصحف السرية أمرٌ صعب، ومن الطرائف قيام الرفيق داود أمين بإجراء لقاء مع جندي التحق بنا، وكان عنوان المقابلة  "صوفي الذي حررناه". ولكثرة ما طلبنا منه اختصار المادة، كتب داود ساخراً "هاي صارت صوفي الذي قرمناه". ولسوء الصدف، طُبعت العبارة الساخرة بدل العنوان الأصلي، وخسرنا ورقة ستينسل ثمينة ونحن نضحك.

ومن المفارقات أيضًا، كان المانشيت الرئيسي في أحد الأيام يقول (ليتوقّف اقتتال الإخوة)، في دعوة من حزبنا لإنهاء القتال بين الأحزاب الكردستانية. وكان هناك رفيق يُلحّ علينا للمشاركة في احتفال مع أحد هذه الأحزاب، فقلنا له مازحين (ليتوقف احتفال الإخوة)، وتسربت هذه الطرفة محل المانشيت، وخسرنا ورقة ستينسل أخرى!

مجدًا للشهداء... تحية لصحيفة (النصير الشيوعي) الغرّاء، وجميع الرفاق القائمين عليها.

النصير الشيوعي العدد 39 السنة الرابعة تشرين الأول 2025